يحيى جابر «مشاغباً»… وسائحاً
في أوائل السبعينيات، ظهرت مسرحية طبعت الذاكرة العربية ومثلت ثورة كوميدية في عالم المسرح، ألا وهي «مدرسة المشاغبين». اجتمع في هذه المسرحية عباقرة الكوميديا المصرية في التمثيل، فكانت مثقلة بالنكات والمواقف الكوميدية، ما جعلها تحتل الصدارة حتى يومنا هذا.
الضحك يتخطى الوعي، هو لحظة ثمالة تصل مباشرة الى اللاوعي، فتدغدغه وتثير ردة فعل لا يتحكم بها العقل. هنا جماله، وهنا أيضاً تكمن خطورته. فكل نكتة تحمل فكرة أو رسالة لاواعية تدخل الى العقل، بغض النظرعن شكل النكتة.
والرسالة التي حملتها «مدرسة المشاغبين»، لم تكن ملحوظة بسبب الضحكات الكثيرة التي احتوتها. قدّمت المسرحية مجموعة من الشباب المتفلت الرافض للعلم، الساعي وراء ملذاته، يسعى فقط إلى التدمير الذاتي. في المقابل، هناك مدير المدرسة الذي يُفني نفسه لمصلحة الطلاب، والأستاذ الذي هلك وهو يحاول تعليم الشباب والمُدرّسة الجديدة التي لا همّ لها سوى الارتقاء بالشباب وإدخالهم الى جنة النظام.
تم اختصار حالة المجتمع من وجهة نظر النظام في هذه المسرحية. فالمدرسة ترمز إلى الدولة، والأساتذة إلى النظام، والتلامذة المشاغبون يرمزون الى جيل شباب يريدون التغيير، أو التدمير من وجهة نظر النظام. وقد نجح الأخير المتمثل في المعلّمة، في نهاية الأمر، في إصلاح الشباب وتدجينهم وتحويلهم الى أشخاص منتجين وموظفين مطيعين.
ثم سلكت مسرحية «العيال كبرت» الطريق نفسه. الأولاد لا يسعون إلا إلى المتعة والتدمير الذاتي، والأب (رمز النظام في هذه المسرحية) غارق في مشاكله، متحمّلاً أذى أولاده (شعبه). في النهاية السعيدة أيضاً، عرف الأولاد مصلحتهم وانسجموا مع النظام واتبعوا تعليماته، وعاش النظام سعيداً.في الخمسينيات والستينيات، كان الصراع في العالم طبقياً، وكان الجميع يطمحون إلى التغيير. دافع النظام العالمي (الرأسمالية) عن نفسه عبر حروب متنقلة، دمّرت المجتمعات بالقوة، وعبر تغيير وجهة الصراع المجتمعي، فدُعمت في السبعينيات الحركات النسوية المتطرفة بشكل كبير عبر الإعلام والمال والمساعدات الحكومية، وتمت شيطنة الرجل، فانتقل الصراع المجتمعي من صراع طبقي الى صراع أُسروي داخل البيت.
وقود الرأسمالية هي النزعة الفردية التي تؤمن الراحة للنظام الرأسمالي. الفرد لا يملك أي قوة أمام النظام. لذا تم نفخ النزعة الفردية الى أقصاها عبر الترويج للحلم الأميركي، حيث كل من يعمل يستطيع أن يدخل جنة الأغنياء، وعبر نفخ النزعة النسوية الفردية المتطرفة التي ترى في الرجل عدواً يجب محاربته للوصول الى جنة الحرية. وبدل السعي إلى تحسين النظام عبر أنسنته بزرع القيم التي تشمل الفرد والجماعة والأنثى والذكر، انتشرت الصراعات المجتمعية الجندرية والعرقية والطائفية، ما منح قاعدة آمنة للنظام يستطيع أن ينمو اقتصادياً عبرها. وبدل تحول مظلومية كل فئة الى قوى تغييرية مشتركة، تحولت الى قوى اقتتال داخلي أفاد منها الحاكم.
رسم الشخصيات كان مليئاً بالتناقضات غير الواقعية
في مسرحية يحيى جابر الأخيرة «مجدرة حمرا»، نجد ثلاث نساء جنوبيات من النبطية أدت أدوارهن جميعاً الممثلة الموهوبة أنجو ريحان، وأتقنت كعادتها الأداء والتنقل الذكي بين الشخصيات، رغم أنّهن كنّ على صعيد النص مثقلات بالتنميط والتناقض اللاموضوعي.
مريم، الشخصية الأولى، هي بنت جنوبية سافرت الى فرنسا وعملت هناك ككاتبة. تعددت علاقاتها مع الرجال في فرنسا، الى أن تزوجت لبنانياً من النبطية يعيش ويعمل هناك. لكنها كانت ترفض إنجاب الأولاد لفقدانها الاستقرار في نفسها، فتطلقت ثم وجدت نفسها ضائعة بين حب طليقها وبين حبيبها القديم من النبطية.
يبدأ من هنا التواطؤ مع نظرة البعض إلى المرأة المستقلة التي تعيش بعيدة عن أهلها، وتصويرها متعددة العلاقات وغير مستقرة نفسياً وغير قادرة على الاستقرار وإنشاء عائلة. هي المقاربة الدونية نفسها المبنية على النظر الى المرأة كسلعة جنسية، ولكن تم تجسيدها في المسرحية بشكل سلس. فمريم الكاتبة والمثقفة لم تقدم أيّ رأي ذي قيمة مضافة عن باقي النساء في المسرحية، ولم تنفعها ثقافتها في مساعدة النساء، ولم تملك أي وعي متقدم. هي فقط امرأة ضائعة بين رجلين.
الشخصية الثانية هي فاطمة، التي توفي زوجها وهي في الثالثة والثلاثين، تاركاً لها أولادها الصغار، وكذلك (وللمفارقة) ترك لها البيت والمحل وبيتاً آخر في القرية وقطعة أرض باسمها. أي أنّها ورثت كل شيء، وهذا ما لا يحصل في الواقع عادة. هي أعادت فتح المحل وربّت الأولاد وعلّمتهم وتخرجوا في الجامعة وتزوجوا جميعاً. طبعاً، هكذا شخصية تمتلك المال والتجربة وقوة الشخصية (ربّت أولادها وحدها) والاستقلالية، لا بد من أنّ لها علاقة خاصة بأولادها قائمة على الاحترام والتقدير، لكن هذا ما لا نجده في النص حيث نعود الى التنميط.
بعد عشر سنوات من ترملها، قررت فاطمة الزواج، لكن أولادها رفضوا وهددوها بأنّهم لن يمشوا في جنازتها إن تزوجت، أو أن تقوم بالتنازل عن كل ممتلكاتها. فاطمة طبعاً اتكأت على مظلوميتها واستسلمت للبكاء.
للشرّ منطقه أيضاً، وأسبابه وعلمه وشروطه الطبيعية، وهذا ما يعطيه عمقه الإنساني، وهذا ما يفتقده نص المسرحية. فالشرّ بان مجرّداً، كما لو أنّه غريب يأتي من كوكب آخر، وهذا ما يظهر بشكل واضح في شخصية سعاد المرأة الثالثة والأخيرة في المسرحية.
سعاد تعلمت في مدرسة الراهبات في النبطية، ونالت المرتبة الأولى في الجنوب في شهادة البريفيه. إذاً، لا بد من أنّها ذكية وعائلتها ذات دخل متوسط على الأقل. لكننا فوجئنا بأنّ أهلها يقررون تزويجها فجأة بعد نجاحها في البريفيه بـ«خضر» رجل يتحول الى سائق «فان» أي باص.
خضر يتزوج عليها بامرأة غنية تمدّه بالمال، ويتزوج بامرأة ثالثة لا نعرف عنها شيئاً، ويدخل في علاقة عاطفية مع حسناء تتصدر صورها المجلات. نعم، إنّه خضر الخارق الذي ــ رغم تعدد النساء والزيجات في حياته وعمله سائق باص ــ يجد الوقت كي يكون موجوداً مع سعاد والأولاد، فيضربها ويهينها بشكل يومي وعبثي. هو يوجه لها الإهانات في كل لحظة، وسعاد الأولى بالبريفيه التي يُفترض أنّها تمتلك ذكاء عالياً، كانت طوال المسرحية شخصية سطحية تدافع عن عنف زوجها وتبرر له بمنطق غبي ولم تستنجد مرة بأهلها ولا بأولادها.
ثم يظهر في المسرحية أنّها متدينة ومؤمنة، ثم فجأة وبشكل غريب تقرر قتل زوجها، وتقتله. لم يكن رسم الشخصيات ناجحاً في المسرحية، بل كان مليئاً بالتناقضات غير الواقعية. فامرأة لم تعش في الغرب غير تعدد العلاقات، وأخرى ربّت أولادها ويُفترض أنّها قوية وغنية، انهارت أمام رفض أولادها الزواج واستسلمت أمام حديث واحد لأولادها، والثالثة متزوجة بشخص غريب وشرير بالفطرة رغم أنه سافر معها في شهر العسل الى مصر، وتفهّم خجلها ولم يفرض عليها الجنس، لكنه مزواج بشكل لا منطقي وهوايته الضرب والإهانة بشكل يومي ودائم ولا وجه آخر له.
يحيى جابر يملك حس النكتة، بغض النظر عن المضمون. هو ذو عمق ثقافي وإنساني، كما أنّه إنتاج محلي في زمن أصبحت فيه معظم المسرحيات مقتبسة عن نصوص أجنبية. لكنه هنا في «مجدرة حمرا» وقع في السائد، حين استعمل اللهجة الجنوبية لإضحاك الناس. قارب بذلك هذا المجتمع بشكل سطحي، واختصره بالفراكة والمجدرة الحمرا وبعض العبارات المضحكة، لكنه عجز عن تقديم هذا المجتمع بشكل حيّ وعن الولوج الى واقعه، مجسداً نواقصه وحسناته وسيئاته وطبيعته الحقيقية.
قدّم يحيى جابر وصفةً ناجحة للجمهور، الضحك مع مظلومية مفتعلة تنضح بها الشخصيات، ما أكسبه تعاطف الحاضرين. نصه يتلاءم مع عصر الوجبات السريعة، عصر الكليشيهات في شتى المواضيع، وخصوصاً الموضوع الأزلي الأبدي، المرأة والرجل. بدل المجدرة الحمرا، قدم يحيى الهمبرغر بمواصفات تتلاءم مع المطبخ العالمي.
انتهت المسرحية برسالة خطيرة: رفض مؤسسة الزواج بالمطلق وزوجة تقتل زوجها، فكان المشهد كالآتي: جمهور يصفّق لعملية قتل. بعد التخلص من «الشيطان»، شعر الجميع بأنه ملاك.
صحيفة الاخبار اللبنانية