يمنى العيد.. المقايضة الصعبة (شوقي بزيع)

 

شوقي بزيع


أخيراً ترجلت يمنى العيد عن صهوة التنظير وسدة التحليل النقدي لتتلمس فوق ترابٍ آهلٍ بالنداوة موطناً لعواطفها الحبيسة في الداخل وبوحها الحميم وحياتها المنصرمة. فقد كسرت يمنى عبر كتابها الجديد «أرق الروح» الإطار الذي رسمته لنفسها منذ عقود، بوصفها ناقدة أدبية متميزة، لتنقل لغتها من رتابة البحث الأكاديمي وصرامته الموضوعية إلى أدب الاعتراف المتصل بخلجات النفس وتمزقات الأحشاء، كأنها وهي تنقلب على صورتها السابقة تردد في سرها صرخة الشاعر الراحل ممدوح عدوان بقرائه «وهذا أنا أيضاً». ذلك ان الكاتبة التي قسمت جسمها بين جسوم كثيرة، على حد عروة بن الورد، سئمت من مواراة حياتها خلف حيوات الآخرين، وحقَّ لها في سبعينيات عمرها المثقل بالمشقات أن تخز مواطن الألم في جرحها الشخصي، وأن تكشف هذه المرة عن الهواجس العميقة التي طالما أرّقتها والتي حبستها طويلاً عن أعين القراء. فيمنى التي ارتضت بحدبٍ أمومي أن تحتضن النيران المضطرمة في صدور غيرها من الروائيين والشعراء والكتاب، وأن تكون، على طريقة «ولية» زوجة العشباوي، في كتاب السيرة، قابلة نقدية لمعظم ما شهدته الساحة الروائية والأدبية من ولادات، شعرت أخيراً بأن الوقت قد حان لكي تتخفف من ثقل «حملها» الروائي الشخصي الذي أرادت له أن يأخذ شكل السيرة الذاتية.
يجمع كتاب يمنى العيد الأخير «أرق الروح» بين متعة السرد وقسوة الأسئلة التي تطرحها الكاتبة على نفسها كما على العالم، بين رشاقة اللغة وبين حياة من لحم ودم تناثرت أشلاؤها على الورق. وهو في بعض وجوهه نوع من أدب الاعتراف الذي يلجأ إليه بعض الكتاب تنفيساً عن ضغوط نفسية داخلية أو كشفاً للنقاب عن حقائق ومكابدات مضنية لم يسبق للكاتب أن أخرجها على الملأ. ولربما تأتي في سياق تلاوة فعل ندامة متأخرة على خطأ جسيم تم ارتكابه في مرحلة ما من العمر، كما فعل غونتر غراس حين كشف النقاب عن انخراطه مراهقاً في الجيش النازي. أما عند يمنى فيتوزع «أرق الروح» على مكابدات ومفاصل حياتية شتى، لكنه يبدو في عمقه الأخير كتاب الأنا المنقسمة على نفسها بين حكمت صباغ، اسم الكاتبة الأصلي، ويمنى العيد، أي الاسم الأدبي الذي اتخذته لنفسها بعد ذلك، وهذا الانقسام بدوره سيتجاوز بعده اللفظي ليصبح انقساماً موازياً بين الجسد والاستعارة، أو بين الهوية الناجزة والهوية القلقة والمقيمة أبداً في جوف النقصان. كما أن الصراع على الاسم يبدو من بعض وجوهه صراعاً تكفيرياً عن خطيئة أهلية لا شأن للكاتبة بها. فحكمت الأنثى لم تنوجد إلا نيابةً عن الذكر الغائب بفعل الموت، عبد الحليم. إنها نائب المفعول به الذي لم يفلح الأدب، فاعله الناقص، في استيلاد نائب عنه، فاختار لابنته اسماً مذكراً ينوب رمزياً عن الذكر الأصلي. هكذا بدت التاء الساكنة في نهاية اسم حكمت أشبه بعلامة وقف للجسد الأنثوي، على حد تعبير الكاتبة.
ولن يتوقف أمر الأنوثة المجروحة عند هذا الحد، بل سنرى ظلالاً للعسف الذكوري مرفوعة كفزاعات الحقول عند كل منعطف من حياة حكمت، وستتضافر القيم الذكورية السائدة مع الكمائن التي تدبرها المصادفات لكي تضع مزيداً من العوائق على درب الطفلة المحملة بالوعود. فالرصاصات التي أصابت حكمت في تظاهرة الاستقلال مسبِّبة لها أذى بالغاً في القدمين لم تنفع بها عند رئيس الحكومة رياض الصلح الذي بدا تجاهله لها عند زيارتها له أمراً مثيراً للاستهجان وغير متناسب مع الدور الوطني الذي لعبه الصلح في تلك الآونة من تأريخ لبنان. وقد حملتني تلك الحادثة الغريبة، التي تركت في داخل الكاتبة جرحاً روحياً أشد تأثيراً من الإصابة الجسدية، على تذكر الحادثة المفصلية التي لا ينفك أدونيس عن استعادتها بين فينة وأخرى. فصاحب «أغاني مهيار الدمشقي» لم يكن ليصيب ما أصابه من الشعر والثراء الفكري والثقافي لولا تعهد شكري القوتلي له بالعناية وإكمال الدراسة بعد ان استمع الرئيس السوري الأسبق إلى قصيدة مؤثرة للفتى اليافع الذي كان قد ترك الدراسة بسبب الفقر، والذي كان اسمه آنذاك علي أحمد سعيد. وفي فترة دراسة حكمت الجامعية سيكمل الأخ الأكبر مهمة الأب وسائر سلطات المجتمع المماثلة، وسيتولى مطاردة أخته العاشقة لنزيه الخطيب، الذي سيصبح زوجها فيما بعد، بحجة تجاوز المحظور وتهديد سمعة العائلة!.
تبدو السيرة في معظم فصولها وكأنها حرب استرداد متأخرة لصورة حكمت الغائصة في النسيان، أو لتخليص الحياة الحقيقية من براثن اللغة، فالكتّاب والفنانون هم أناس من ورق، بحسب المسرحية الرحبانية المعروفة، لأنهم يضحون بالحياة البيولوجية المتاحة من أجل خلود ملتبس وغير مضمون. والسؤال الذي تطرحه يمنى على نفسها هو السؤال إياه الذي طرحه توماس مان في روايته «موت في البندقية» حول العلاقة بين اللغة المتمثلة بالكاتب الستيني الكهل وبين الجمال الطافح بالنضارة المتمثل بالفتى اليافع. وكان على بطل الرواية أن يدفع حياته برمتها ثمناً لافتتانه المأساوي بالجمال الذي لا سبيل إلى امتلاكه.
ليس من قبيل المصادفة تبعاً لذلك أن تمحو الكاتبة من سيرتها كل ما يتعلق بمسيرتها النقدية والإبداعية. فلا إشارة هنا إلى مؤلف أو بحث أكاديمي أو عمل نقدي. لا اعتداد بالمنجز النظري الذي دفع الكاتبة إلى صدارة المشهد النقدي العربي. لا تطرق إلى صراع الأساليب واختلاف المناهج والمدارس الممتدة من الواقعية والرومنسية والرمزية وصولاً إلى البنيوية والتفكيكية وغيرها. ذلك أن الغاية من السيرة في الأصل هي التخفف من أوزار الكد العقلي والنظري الذي سمح لصورة يمنى بالخروج إلى العلن وتحـــقيق الشـــهرة، والعمل على قيامة حكمت الغائصـــة في نسيان شبه تام والمتوارية خلف ضريح من الورق. فالكاتب، أي كاتب، يقف على انقاض حياته كما يقف التمثال على القاعـــدة. وما كـــتابته لســـيرته سوى نوع من الاعتذار للشخـــص القـــابع في داخـــله عن العمر الموقوف والحــياة التي تم وأدهـــا. أو قل هي انتصـــار للحياة التي ترزح في الأســـفل على التمـــثال الذي يتســامق في الأعـــالي.

وثيقة سوسيولوجية

لهذا السبب تبدو الفصول المتعلقة بالطفولة أكثر فصول السيرة نبضاً وتوهجاً وذهاباً باللغة إلى تخومها. فهذا السحر الغامض للأيام المطمورة بدا بمثابة الكنز الذي اخرجته يمنى من أدراج الماضي السحيق لكي يحررها من ربقة الحاضر وقتامته، وليعنف عواطفها الجامحة من قيود العقل وضوابط الرصانة الأكاديمية. وإذ ينهض الزمان من حفرته الخبيثة ينهض معه المكان ونصوبه وأشخاصه وأساطيره وهذياناته. تنهض صيدا القديمة وأبوابها وسراديبها وأقواس قناطرها وعربات خضارها وسمرة بحارتها وعرق فقرائها وتاريخها الموزع بين الديني والوثني، وبين ألق الأرجوان وسخونة الدم المراق في الحروب والكوارث. وفي غمرة وصفها لبيوت صيدا وحاراتها وتفاصيلها الصغيرة وتحولاتها المتلاحقة لا تغفل الكاتبة الإشارة إلى جماليات المكان التي احتفى بها غاستون باشلار في كتاب قيم ومفعم بالترجيعات الشاعرية، كما ان الكتاب في فصوله الأولى يتحول إلى وثيقة سوسيولوجية وتاريخية لواقع صيدا في تلك الحقبة من الزمن، كما لفلسفة العمران الصيداوي حيث نقرأ للكاتبة: «ندخل دارنا من بوابة حديد زيتونية اللون، عريضة. الطابق السفلي هو القبو. نصعد سلماً حجرياً إلى الطابق الأول حيث الفناء الواسع المفتوح على السماء، طرمبة الماء وأبواب تفتح على غرف مليئة بالرجال والنساء والأطفال، وسلمين حجريين واحد يصل بنا إلى بيتنا، وآخر يفضي بنا نزولاً إلى عقود وأقبية كأنها المعلقات».
عبر هذا العالم الطوطمي المشرع بالأسرار تتسلح يمنى بنفس الروائيين الملحميين حيناً، وبعاطفة الشعراء وتخيلاتهم حيناً آخر، وبعين الرسامين مرة ثالثة، لكي تتعقب التفاصيل، وتؤبد في بورتريهات لافتة صور الأب والأم والإخوة والأقارب، وكل ما يتصل بحبل السرة السلالي. ويمنى الجديدة هذه لا تكتفي بالنزول من سماء المعادلات الذهنية إلى أرض الحياة المعيشة، بل تمعن في التفاصيل لكي تجعل من مسألة فقدان حذائها المتروك في زحام التظاهرات مسألة وجودية موازية لفقدان الطفولة نفسها، أو لتعثر الحياة في سعيها الحنين إلى التقدم. لكن الأحداث على أهميتها ليست وحدها ما يشد القارئ إلى السيرة، بل اللغة في طراوتها وتواشجها مع القلب وخفتها المشوقة. فهي تنقبض وتنفسح وتعنف وتخبو وفقاً لمقتضيات السرد وضروراته النفسية والوجدانية. وهي باردة ومحايدة وشبه تعليمية في الحديث عن الوظيفة وشؤون الإدارة في ثانوية صيدا للبنات، ولكنها حين تلبس لبوس المراثي تتحول إلى مرجل فائر من الحسرات وترجيعات الفقد، لتبلغ عند نهاية الكتاب ذروتها القصوى، وتعود إلى مربعها الأول ليصبح الأب الغائب منادى رمزياً لكل ما تركته الحياة خلفها من خسارات.
ليس علينا أخيراً ان نحاسب يمنى على ما شاءت ان تحذفه من حياتها أو تتعمد إغفاله. فلكل كاتب الحق في ان ينتقي من سيرته ما يريد له ان يظهر على الملأ. فضلاً عن كون الكثير من أحداث حياتنا تسقط على سبيل النسيان والسهو لا على سبيل التناسي المتعمد. فيمنى، التي زاولت التدريس في كلية التربية التابعة للجامعة اللبنانية مطالع سبعينيات القرن الفائت، وكنت أحد طلابها يومذاك، تشاء على سبيل المثال أن لا تشير إلى ذلك الأمر مطلقاً، من دون ان يقلل ذلك من قيمة السيرة ومصداقيتها. إذ لها وحدها الحق في تدوين ما تراه هاماً ومفصلياً في تجربتها الغنية. ومع ذلك فقد بدا لي تكتم الكاتبة على حياتها العاطفية وعلى كل ما يتصل برغبات الجسد الأنثوي ورعوناته المشاكسة أمراً يمكن التوقف عنده، خاصة أن إحدى غايات السيرة الأهم هي الانتصار للأنثى على الكاتبة وللقلب على العقل البارد. إلا ان مثل هذه الملاحظات العابرة لا تحجب بأية حال جمالية التجربة السردية الجديدة وفرادة «أرق الروح» الذي لا أتردد في اعتباره أحد أجمل كتب السيرة في الأدب العربي المعاصر.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى