يهبون البقشيش ولا يملكون ثمن الوجبة
كان الصديق الدمشقي “عزمي موره لي”، ذو الأصول التركية أحد أهم من يكتب بالفرنسية وأرستقراطيّا في كّل شيء –حتّى في ابتسامته ـ إذ لم نشاهده يوما يضحك.. حفاظا على هيبته, فهو كثير الجدية ودائم التجهم والعبوس إلى حد التكشيرة، وكأنما اشتم لتوه رائحة كريهة.
قلت له يوما مستغربا من تجهّمه الدائم : ” أغلب الظنّ أنّك تعود إلى مزرعتك مساءا ,تغلق الباب على نفسك كمن يغيّر ملابسه وتضحك ” فابتسم ربع ابتسامة، أظنه ندم عليها فيما بعد..وبمناسبة الحديث عن مزرعة ” عزمي باشا ” فإنه كل ما كان يدعونا إليها، يجعلنا نتضور جوعا في انتظار الأطباق وهو يحدثنا عن مآثر العائلة في اسطنبول ويستعرض ألبومات صوره في فيينا وباريس..ثم يأتي الطعام القليل في الصحن الكبير على يد خادمه ذي القفازات البيضاء والبدلة السموكن في طقوس خاصة.
همس لي عزمي باشا مرّة ب” أنه سيموت احتجاجا على غياب الأناقة”.
العرب البدو لهم طقوسهم أيضا، والتي يحملونها معهم في المدن والحواضر، وأذكر أنّي ارتشفت فنجان القهوة المرّة في مجلس عزاء في الأردن، وورفعت صوتي متباهيا بإتقاني لهذا الطّقس قائلا: ” دايمة يا جماعة “…ومن حسن حظي أنهم فهموا”قلة حيلتي اللغوية” فاستقبلوا الأمر بابتسامة أعقبها درس مجاني في “أدب العزاء” وضرورة أن لا تدعو ب ” دوام النعمة ” في مأتم.
يحتار المرء بالعالم العربي في التصنيف الفئوي للمجتمع وفق الضوابط والمعايير الكلاسيكية المعتمدة في الغرب، فالمجتمعات العربية في أغلبها تنتمي إلى ما أطلق عليه مجازا ” شبه الشبه “، والاستثناء فيها يكاد يغلب القاعدة، إذ هي مجتمعات شبه مدينية وشبه ريفية، وتحوي طبقات شبه برجوازية وشبه إقطاعية، كما أنّ اقتصادياتها شبه ريعيّة وشبه رأسمالية..وهلمّ جرّا من هذه القراءات المحيرة.
الارستقراطيون ـ وفي أصلهم التاريخي ـ يمثلون طبقة امتلكت السلطة والنفوذ عبر وهم وأكذوبة “الدم” بالمعنى التوريثي البحت، وعبر حمل اسم العائلة التي يكون لها امتيازاتها على حساب غيرها من العائلات.
أمّا البرجوازيون فهم الذين قادوا الثورة الفرنسية التي بدأت بصغار العمال والحرفيين ليتحولوا فيما بعد إلى طبقة تعيش على استغلال جهد الآخرين في الإنتاج لمصلحتها، وعملت على تكديس الثروات والتحكم بالأموال وبالتالي التحكم في سلطة المجتمع الرأسمالي كحال الكثير من أثرياء هذا العصر.
المشكلة أنّ هاتين الفئتين ( الأرستقراطية والبرجوازية) لهما إرث حضاري ومخزون ثقافي في العالم الأوروبي رغم السجلات السوداء، أمّا في البلاد العربية فلا يمثلان سوى حالات منبتّة وهجينة عن محيطها الاجتماعي والثقافي.
الأرستقراطية عند العرب، ارتبطت في قسم كبير منها ببقايا الإقطاع والظلم والاستبداد، فأصحاب هذه الصفة، هم في أغلبهم من محتكري الأراضي الزراعية ومالكي العقارات، وأصحاب الامتيازات من أيام النفوذ العثماني، وقد حصل الكثير منهم على الألقاب والتسميات ب” فرامانات” من السلطة والمقربين من “الباب العالي”، وذلك إما بواسطة المال والمحسوبيات أو مقابل خدمات ذات طابع إنكشاري، وهي في أغلبها مطعون في أخلاقياتها.
يكاد يتفق الدارسون على أنّ غالبية الأسر التي باتت تصنّف كأرستقراطية في العالم العربي، ليست من أصول عربية، فهم من الأقاليم التي بسط العثمانيون سلطتهم عليها كبلاد القوقاز والألبان والأرناؤوط والبوشناق وغيرها.
رافق أجداد هؤلاء (الذين دخلوا الإسلام متأخرين ) الأتراك العثمانيين والتحقوا بخدمتهم مرغمين ومخيرين، سواء في المجال الحربي وحرس التشريفات أو في المهمات والخدمات الخاصة داخل قصور السلطنة، حتى أنّ أكثرية ألقابهم تحمل نوعية وظائف وأعمال يراها العرب ـ والبدو على وجه الخصوص ـ في مجملها ” وضيعة ولا تليق بمقام الأعيان وأشراف القوم “.
لعلّ أكثر من فضح الأرستقراطية هو واحد منها وهو تولستوي في رائعته “آنا كارنينا ” التي تحمل سرداً لأغوار القضايا الاجتماعية و الفلسفية و الأخلاقية لروسيا القيصرية و طبقتها الأرستقراطية، وذلك في سبعينيات القرن التاسع عشر، والرواية رحلة في رحاب طبقة النبلاء الذين دعوا لنظام القن لينتقلوا من النظام الإقطاعي القديم إلى الأرستقراطي الجديد، هذه الفئه من الناس مريضه بمرض الطبقيه، مرض النبل، مرض الإرث الثقيل، مرض الدم المختلف، نماذج بشريه مهتزّه وغير سويّه، مهترئة الإنسانيه ، فيأخدها في صراعات كثيرة بين القلب والعقل، بين الحب والواجب، بين القديم والجديد ، بين العبوديه والحريه ،بين الظلم والعدالة والطبقية و المساواة.