يوسف أبو لوز شاعر الغريزة اللغوية المضيئة
قطعاً لدى الشاعر يوسف أبو لوز ما يقوله في ديوانه الجديد «زوجة الملح» (مجلة دبي الثقافية 2013)، فصاحب «ضجر الذئب» (1995) و «خط الهزلاج» (2002) صاحب تجربة شعرية خاصة، يقوم انبثاقها على أساس من التشرد اللغوي والتنقل بين أرصفة حديثة مقفرة وبرار قديمة موحشة… قد نكون في حاجة إلى أن نشرح عنوان الديوان السابق ليوسف أبو لوز «خط الهزلاج» ، فالهزلاج هو الذئب الصغير. وفي ديوانه الجديد، قصيدة بعنوان «ضجر الذئب» يستعيد فيها عنوان ديوانه الأسبق… وفي القصيدة، كما يقول الشاعر «سفر ميت وعواء»، فالسفر الميت متاهة. وفي مقطع من القصيدة ما يشبه التماهي بين الشاعر والذئب «وتهرم أمي وتنسى ولا تتكر مني سوى خصلة الذئب في مفرقي حين كانت على شبه ببهار الضحى». المفردة الرئيسية هنا وهناك وهنالك هي «الذئب» وهي في وسط التجربة، مؤشر أو بوصلة على غربة أو معنى من معاني الخلع النفسي. لا نستطيع أن نستأنس شعر يوسف أبو لوز إلا من خلال انخراطنا في غربته وغرابته في وقت واحد. كأننا أمام رجل يغادر اليوم أهله وأحبته، ويغادر طفولاته وثيابه وبلاده نحو اماكن أخرى قد تكون أرصفة وقد تكون مدناً بعيدة، قد تكون متاهات في الصحراء أو منافي، أو بحاراً مبهمة. وفي حاله ثمة استبدال لأهل بأهل سواهم، ولبلاد ببلاد سواها… وبالضرورة للغة بلغة ثانية. إذ ما معنى زوجة الملح ؟ وهل الملح فتى ليتزوج؟ ومن هي زوجته: أهي البحر أم القهر أم رمل الشاطئ؟ مرة واحدة تعثر على مفردة الملح في نصوص الديوان، وذلك في قصيدة «الرثاء امرأة». وفي القصيدة نفسها نعثر على تعريف أو تسمية او معنى للرثاء على انه الملح. يقول:» ارث لي روحي رثاء الثوب في ريح رماح / ارث جرحاً تلو جرح قد تناوبن على زين الملاح / الرثاء امراة أو إبرة المرأة في ثوب الرياح / الرثاء الملح والدنيا أبوها الليل زنجي قديم العظم غطاه الصباح». القصيدة هذه مرثية صغيرة على وزن الرمل. والرمل وزن رثاء. وهي مرثية ذاتية فالشاعر فيها يطلب من صاحبه (وهو نفسه) أن يرثي روحه الذاهبة كالثوب في ريح رامحة، مسافرة كالرمح وهو كمالك بن الريب أو كأبي فراس يطلب أن يرثى كزين الملاح.
هذه القصيدة، على ما نرى، هي نموذجية للوصول إلى بعض سمات تقنية يوسف أبو لوز، في ديوانه هذا. لا بمعنى أنها الأجمل أو الأبدع، ففي الديوان ثلاث قصائد ركنية في تجربة الشاعر هي قصيدة «سجادة للندم» و«موسيقى ليست هادئة» و«بيت باخوس». ولكن في هذه القصيدة «تقريباً»، كل عناصر السبك الشعري أو الأسلوب الذي به صكّت نصوص الشاعر في ديوانه. وهي عناصر التسمية، والغريزة اللغوية، والإيقاع.
التسمية: على امتداد النصوص، لا نفتأ نعثر على محاولات للتسميات او التعاريف، من خلال المعادل اللغوي لشيء بشيء آخر. فعلى غرار «الرثاء امرأة» أو «الرثاء إبرة امرأة في ثوب الرياح» أو الرثاء هو «الملح» (على الجرح ؟). نعثر على استعارات وكنايات وتشابيه تتوالى في كل قصيدة: «أيامي منازل والليالي كالحجارة سرها في بطنها» (ضجر الذئب) ونعثر على تعريف للحياة بأنها الطريق إلى الموت (حياة) وبأن المكان «آخر منفى لديك» (مكان).
تغلب الكناية على هذه التسميات، إذ ان الشاعر ينتقل مباشرة إلى الرمز ماحياً أدوات التشبيه، والكثير من الاستعارات ليقع على معادلاته الشعرية… وهي معادلات تتوسل اللغة وما تحويه من ظلال هي أحياناً كظلال العفاريت خادعة وخلبية. وكثيراً ما تنأى بالصورة عن الأصل، وبالمكنى به عن المكنى عنه، وغالباً ما تستعير للتعبير عن الشيء ضده أو نقيضه فيتم التعبير عن الحياة بالموت، وعن الإقامة بالرحيل، وعن الحب بنقيضه… ففي قصيدة «طخ النسر» يتم تعريف النسر بما عداه… ليس النسر غزالاً أو ذئباً». وغالباً ما تتسرب المعاني من فسوخ الكلمات، فالتشابيه إذن والاستعارات والتكنيات (من الكناية) هي أدوات تعبيرية لا لتسمية الشيء بذاته، بل لسواه. وما هو سواه؟ سواه حيناً هو، وأحياناً غيره، وأحياناً شيء غامض يطاف حوله ولا يعرف.
نحن إذن في شعر يوسف أبو لوز، لسنا أمام «التسمية» او «التعريف» رغم عشرات التسميات التي في النصوص. عادة، حين نسمي الشيء نعرفه. نمنحه بالاسم وجوداً وحدوداً وهوية. ويصل الأمر أحياناً إلى حدود تظهر فيها الأسماء وكأنها هي بعينها الأشياء.
تصبح اللغة في الشعر إذن، لا أداة للتسمية فحسب، بل وضعاً للتاويل. وهذا هو أساس الشعر… عليه، فإن كل التسميات التي استعملها الشاعر في «زوجة الملح» تتمحور لا في الكشف عن المعاني الحقيقية للكلمات بل عن رموزها وأبعادها الخفية. وهذه الأبعاد تحس بالإحساس وتنال بالحدس أكثر مما تظهرها الترتيبات العقلية والمعادلات المنطقية… أحياناً يمكن الوصول إليها بالموسيقى. وفي كل الأحوال، فإن الإيقاعات الشعرية هي الأجنحة التي تحمل الصور وتطير بها في فضاء رحب هو فضاء الخيال. الإيقاع جزء من الخيال والصورة جزء من الخيال. وهذه العناصر بكاملها تنحل في كيمياء الكلمات.
الكلمات والإيقاع
يكتب يوسف أبو لوز الجزء الأول من ديوانه بعنوان كتاب الصيد، على الإيقاع الموزون. هو يسمي القسم الثاني من ديوانه «كتاب النثر»، من حيث هو أربعة نصوص نثرية طويلة، تنطوي على روح شعرية. ولو كان يرغب في ان يسلكها في الإيقاع الشعري للديوان، متجاوزاً مسألة الوزن لما كان فصّلها على الصورة التي قام بها، وأعطاها تسمية اخرى «كتاب النثر». ولن ندخل هنا في حوار تجاوزته النصوص حول ثنائية نثر / شعر والحد الفاصل. ما هو؟ ذلك أن يوسف أبو لوز في نصوصه الموزونة، على المتدارك غالباً، والرمل والطويل. هو شديد الانتباه للوزن، حتى انه من أجل استقامته، يسكن احياناً حرفاً متحركاً أو يحرك حرفاً ساكناً. فهو يسكن حرف العين في «معه «في قوله» كانت لنا أسرارنا. أسرارنا حجر وما قول الفتى إلا لسان قاتل إن زل زلت (معه) رأس حياته» فلو حرك عين معه، لانكسر الوزن. وهذا الحرص على الوزن يخدم إيقاع النص، وفي رأينا، ليس في الشكل، بل في المضمون أي في الشعر، فصورة القصيدة هي القصيدة وصوتها وصمتها معاً يصنعان إيحاءها. وبالتالي لو تغير الإيقاع تتغير القصيدة نفسها.
والإيقاع هنا في النصوص، ليس بعيداً عن ترتيب الحروف، والكلمات والأوزان، بل لعـــله هو هي مجتمـــعة، ومتشابـكة. فللشاعر يوســـف أبو لوز حس لغوي فائق التنبه، وخيطه الــصوتـــي يشد به الكلمات، ويرتي به قمصانه الشعرية المتنوعة، مثلما ترتي امرأة الملح بإبرتها ثوب الرياح، أو تنـــسج مراثيها المنسوجة من خيطان الرياح. وهو ينتبه لــمزاوجات الحروف في الكلمة الواحدة، ومزاوجات الكلمات في العبارة، والعبارة في النص ما يشير إلى قدرة على البناء اللغوي الإيقاعي لديه… في ما يسمى هارموني القصيدة. ففي البيت الأول من قصيدة «الدليل» ينتبه لعلاقة الدال مع اللام ويكرر المفردة «ثلاث مرات في بيت واحـد» أدل دليلي على بيته وأدل الفراش» وآخر القصيدة «دلوا بلادي علي» وهو مربوط بأولها.
صحيفة الحياة اللندنية