يوسف زيدان… نقمة وحسد (عبده وازن)
عبده وازن
يعكف يوسف زيدان على تدبيج ردّ – سيكون حازماً حتماً – على التهم التي وجّهت إليه أخيراً انطلاقاً من كتابه «اللاهوت العربي» ومنها التهمة الجاهزة دوماً وهي «ازدراء» الاديان الثلاثة، التوحيدية أو الكتابية أو الابراهيمية… تذكرت الجهة التي وجّهت الاتهام إلى صاحب «عزازيل» هذا الكتاب التحليلي والتأريخي الصعب، بعد أكثر من أربعة أعوام على صدوره، ولعلها وجدت في حكم الإخوان فرصة مواتية لمحاكمة الكتاب وصاحبه، هذا الذي أمضى ردحاً من حياته، مكبّاً على تحقيق أهمّ المخطوطات الصوفية والدينية بُغية إخراجها الى الضوء ونشرها، والاستنارة بها وبما تحمل من خلاصات تجارب ومكابدات عميقة تصب في جوهر الدين.
بدا من المستهجن حقاً أن يُتهم يوسف زيدان بهذا «الازدراء» وأن يخضع لتحقيق دام أربع ساعات في «نيابة أمن الدولة» وكأنه ارتكب جريمة أو أثار فتنة. وفات المتّهمين إياه والمحققين معه، أنّ الدولة المصرية كانت أوفدته باسمها، إلى المؤتمر الديني الدولي الشهير الذي عُقد في طشقند عام 1999 وعنوانه «الدين والديموقراطية»، وكانت له مداخلة قيّمة، هو العربي الوحيد في المؤتمر، وشارك ختاماً في صوغ بيان تاريخي عرف بـ «إعلان طشقند».
لا يحتاج يوسف زيدان الى من يدافع عنه في هذه القضية، فهو من خيرة العارفين في حقل الإسلام والاديان السماوية الثلاثة، أكاديمياً وعلمياً كما من الناحية الاختبارية الذاتية أو الشخصية. والردّ الذي يكتبه الآن ليدافع فيه عن آرائه سيكون نصاً مرجعياً على هامش كتابه الذي أعلن في صفحته الاولى أنّه لم يوضع لقراء أدمنوا «الاجوبة الجاهزة». وهكذا استبق زيدان كل قراءة خاطئة أو مبتسرة وناقصة لكتابه هذا، وكل تحريف لأفكاره أو تشويه لها. والكتاب يفترض فعلاً، قارئاً مثقفاً ملماً بالفكر الديني التوحيدي وبتاريخ هذا الفكر وبالمدارس اللاهوتية والفرق الكثيرة. وتتطلب قراءة الكتاب أيضاً معرفة عميقة في حقل الحوار الديني وعلم الاديان المقارنة، وخبرة في الانفتاح وفهم الآخر… وأصلاً ينطلق الكتاب من مبدأ الحوار، ركيزةً أولى وواجبة، ليعالج من ثم «العلاقات المهمة والمهملة» التي تجمع بين الاديان التوحيدية الثلاثة، تاريخياً وتراثياً وعقائدياً وميتافيزيقياً… وكم أصاب زيدان في إضفاء صفة «المنطقة المعتمة» على العلاقة بين الاديان الثلاثة، فهي تحتاج كثيراً إلى المزيد من الأضواء القادرة على كشف أعماقها وسبر حقائقها، في منأى عن المقاربات «الأخوية» و «الشعاراتية» التي لم تبلغ جوهر هذه العلاقة. إلاّ أنّ بعض الافكار التي يعالجها زيدان والمقاربات التي يقترحها قد تثير حفيظة المفكرين التقليديين والمحافظين، وهي قابلة للنقاش، ومنها على سبيل المثل التسمية التي تُطلق على الاديان الثلاثة، فهو يؤثر صفة الرسولية أو الرسالية، ويناقش أيضاً صفة السماوية ويعدّها غير دقيقة، فهي برأيه تشمل الاديان الاخرى غير الوثنية مثل البوذية…
وفي غمرة هذه الازمة التي يشهدها يوسف زيدان، لا يمكننا إلاّ أن نتذكر الحملة السابقة التي رافقت صدور روايته «عزازيل» (حازت جائزة «البوكر» العربية عام 2008) وقام بها رجال دين أقباط محافظون وتقليديون وجدوا في الرواية إحياء لتراث مهمّش هو التراث الهرطوقي الذي اختلفت الكنائس القديمة، الشرقية والغربية مع دعاته، ونبذت أفكاره الجريئة التي تخالف العقيدة المسيحية. ومعروف أنّ هذا التراث الهرطوقي ذائع في الغرب المسيحي ومنشور، وقد شهد حالاً من النقاش العلمي الهادئ بعد اندحار «ثقافة» محاكم التفتيش والإدانات والأحكام شبه العرفية. ولم يسئ زيدان البتة الى الدين المسيحي، وهو لا يستطيع أصلاً أن يسيئ إلى أي دين، بصفته رجل حوار وباحثاً في الحقل الصوفي. كل ما فعله هو كشفه عن تراث مجهول وشخصيات غير متداولة وأفكار ممنوعة عقيدياً. لم يزوّر زيدان في روايته التاريخ ولم يحرّفه، بل اتكأ عليه ليبني عالماً سردياً، تاريخياً ومتخيلاً، ثقافياً وفنياً. وكان على بعض رجال الدين المسيحيين، المنفتحين والحداثيين، أن يدافعوا عنه وعن روايته. وقد ساهمت الحملة على الرواية في رواجها أكثر فأكثر بعد «البوكر» العربية، وحظيت من جرّائها، بشهرة تخطت تخوم العالم العربي وترجمت الى أكثر من لغة.
الحملة الجديدة على كتاب يوسف زيدان ستساهم برواجه أيضاً، وسيحظى بالمزيد من الاهتمام عربياً وعالمياً، بخاصة أنّ الكاتب مهدد، إذا خسر الدعوى، بالسجن ثلاث سنوات، كما أُعلن. ولم ينجُ زيدان هذه المرة أيضاً من حسد الحاسدين، مثلما حصل سابقاً. وكثيرون من أهل القلم يغبطونه الآن على هذه «المحنة» التي يواجهها، ويتمنون أن تنتهي بسرعة، فلا يدخل زيدان السجن لئلا يزداد شهرة. إنها الغيرة، بل هو الحسد، وما أبشع حسد الحاسدين.
صحيفة الحياة اللندنية