يوميات الكاتب عادل محمود: رؤية المثقف بعين الحكيم !
تختبئ مهارات الكاتب السوري عادل محمود وراء تواضعه الذي دفعه ليقول لنا «أعتقد بأن نصفكم لم يسمع بي، ونصفكم الآخر لم يقرأ لي.. وإيماني برسالتي الشعرية ضعيف قليلاً، فالشعر شأن شخصي يهم الآخرين، وأنا أكتب وأقرأ وأتسلى».
ومع ذلك ، وما أن بعث بروايته «الى الأبد… ويوم» قبل يومين من انتهاء موعد قبول النصوص ل «جائزة دبي الثقافية للإبداع – الدورة الخامسة»، حتى وصله الخبر بفوزه بالجائزة الأولى للرواية ومقدارها خمسة عشر ألف دولار.
وعمليا تنوعت كتابات عادل محمود، منذ أن أصدر مجموعته الشعرية الأولى (قمصان زرقاء للجثث الفاخرة) عام 1979 ، لتفرض له موقعاً هاما له في الوسط الثقافي. وآخر مايلفت النظر في كتاباته تلك اليوميات التي ينشرها في موقع (بوابة الشرق الأوسط الجديدة)، التي يترك فيها انطباعا بأنه يملك رؤية الكاتب الكبير القادر على أسر القارئ بما يطرحه عليه من أفكار.
في يومياته هذه، يحاكي الواقع الإنساني بما فيه من صخب وغليان ومفاجآت وحروب وأوبئة وهزائم ومجازر وخوف ورعب وفقر ..
وربما كانت بيئة الكاتب عادل محمود، فهو من ريف اللاذقية (قرية عين البوم)، قد أغنته تجربته في محاكاة المحن التي تجتازها البلاد من فقر وفتن ومآسي، وفي آخر تلك اليوميات، يقدم لنا مفتاحاً لبوابة أمل كبير بحجم الوطن، وهو يقول :
قررت أمس…أن أترك بابي مفتوحاً دائماً.
نومي ثقيل
وسورية التي احببتها… قادمة!
ويحدد قاعدة الهزيمة الأساسية للانسان، فليس الخوف أو القلق أو الحزن أو الوباء أو فقدان الأمل أو الخيبة أو جوع الحياة، أو التقدم في السن… ليس كل ذلك ما يجعلنا نهرم. بل الانحناء على شكل بلد مكسور. وفي الحكاية التي تلي رؤيته هذه نتعرف على تفاصيل من حجم المأساة التي يعيشها السوري :
إمرأة في السجن… اعتنت بعشبة نبتت في شق بين بلاطتين، كانت الشمس تزور هذه البقعة الصغيرة في وقت محدد صباحاً. وفي هذا الوقت… كانت المرأة تتشمس كل يوم في حديقتها“ وعندما يرثي صديقه نمر عدوان يخبرنا أنهم ” اختطفوا ابنه العشريني وقتلوه ونكّلوا بجسده. أراد أقرباء القتيل قتل عشرة من أقرباء القتلة، لكن نمر… بيده الطويلة التي تشبه، راية محارب منتصر… أوقفهم وهو يردد مقولة غاندي:
“العين بالعين ويصبح العالم… أعمى”
أما عندما يرثي صديقه بندر عبد الحميد، فيكتب:
تتكون الشام من آلاف الأشياء الجميلة.
تتكون الشام من آلاف الأشخاص الجميلين.
تتألف الشام من آلاف البيوت الكريمة.
بموت بندر عبد الحميد… نقصت الشام.
لكنه في كانون أول/ ديسمبر 2012، يتأمل في الحالة السورية ، فيفسرها على نحو آخر، فيكتب : يعكف الله على إعادة كتابة الوصايا العشر كي يكون من بين التعديلات: “لا تقتل بغزارة”. كل الأطراف السورية، في حالتنا، لا تغير كتابها المقدس: ” العين بالعين وتصبح سورية كلها عمياء”.
في 9 أيار/ مايو 2020 يكتب عادل محمود أنه وفي أسطورة “جزر سليمان” عندما يريدون قطع شجرة لأي غرض كان… لا يستعملون الفؤوس، وإنما يأتي عدد من السكان، يتحلقون حول الشجرة، وهو يلوحون بقبضاتهم ويشتمونها بأقذع شتائم الكراهية، في حفلة ازدراء جماعي.
بعد بضعة أيام يأتون ليروا الشجرة وقد ذبلت أغصانها، وتساقطت أوراقها، وتيبس جذعها، ومن تلقاء نفسها تذهب إلى الموت.
هذه الحكايات تتكرر في يومياته، وربما يأخذنا إلى العالم ، وهو يقدم حصاد قراءته التي يضعها بين يدينا لنتعلم منها أو ربما لتكون عبرة:
الشاب الأمريكي “بالاك مايكوسكي” مات أبوه ، فورث عنه ثروة طائلة.
مضت فترة وهو يفكر باستثمار هذه الأموال، أو كيف يصرفها أو ماذا يفعل بها… فلم يجد فكرة مناسبة.
في العام 2005 ذهب إلى الريف الأرجنتيني للمشاركة في سباق للسيارات، وهي الرياضة المحببة له. فلاحظ أن معظم الأطفال في تلك المنطقة حفاة، ومن الفقر لا يلبسون أحذية… فقرر بالاك أن ينشىء شركة لصنع الأحذية، تجمع ، في نظام بيعها بين العمل الخيري والربح التجاري، فكانت الشركة الأكثر شهرة: شركة تومز للأحذية الرياضية التي تنتعل بدون جوارب.
يقوم التسويق على فكرة ” واحد مقابل واحد” أي حذاء واحد لكل فقير مقابل كل حذاء يباع.
وهكذا خلال سنوات كان ملايين الفقراء قد حصلوا على أحذية لا تمر في ثقوبها كل فصول السنة.
وفي 13 شباط/ فبراير 2020، يكسر نمط الكتابة اليومية، يبوح لنا بأنه يفكر بانتحال صفة المفكر ليقول: ينبغي أن تستطيع الحصول على خبز دون توجيه أي مديح لحبة لقمح، وأن تكون الحياة أبسط من كل هذا العناء، ولا تكون وظيفة الموت إيلام البشر.
أما التعريفات التي يقدمها لنا، فهي جميلة بحيث تدخل إلى قلوب القراء ، وكأنها تيمات الروح التي يبحث عنها البشر، فنراه يكتب :
الحب أنتج الشعر.
ولكن الشعر لا ينتج الحب.
الحب شعر.
الزواج نثر.
الحب قصيدتان
واحدة للغزل وأخرى للوداع.
وبين الحب والحرب ، يغزل الواقع أحداثه، فكما يقول عام 2014:
ازداد في سورية عدد من الأمراض: السكري، الفشل الكلوي، الأكتئاب المزدوج، الهلوسة، القرحة، انسداد الشرايين.
السكري: من المرارة.
الفشل الكلوي: من انقطاع المياه.
الأكتئاب: من القصف.
الهلوسة: من الوحدة.
القرحة: من غلاء الطعام.
انغلاق الشرايين: من إغلاق الطرق.
ثم يسأل :
ماذا ستفعل بعد أن تنتهي هذه الحب؟
أنا سأكتب رواية، وكتاب يوميات بعنوان “الموت أقدم عاصمة في التاريخ”.
ثم يكتب :
في كانون أول/ ديسمبر 2019
ما بعد الحرب أصعب
تنفلت الوحشة المحبوسة من زمن المقابر.
ويفلت الوحوش من أزمنة البرابرة والاستبداد.
ما بعد الحرب أصعب
ما بعد الحرب أصعب.