يوميات ناقصة | نهارُ الخائفَين (نزيه أبو عفش)

 

نزيه أبو عفش

نهارٌ.نهارٌ.نهارٌ….إلخ: ها أنا أُكرّرُ الكلماتِ كمنْ يَشْقعُ حجارةَ قبر.
الصباحُ فَرَجُ الخائفين. على أنه فَرَجٌ لا يدوم. فرَجٌ أقصرُ من شهقةٍ وأطولُ من أبديّةْ. فَرَجٌ داخل النفق.
فَرَجُ الصباحِ مليءٌ بالصمت. نَدخلهُ كمن يَخرجُ منه، بقلبين مَرضوضَين، وعظامٍ مُجعّدةٍ من ضراوةِ النوم، ودماغَين قاحلَين كذاكرةِ مومياء.
نصمتُ كمن يتذكّر. نصمتُ على أملِ أنْ نتذكّر. نصمت ونعجزُ عن التذكُّر. نصمتُ فنزدادُ صمتاً.
هو نهارٌ آخر. نهارٌ كسِواه. نهارٌ موشكٌ على الزوال. نهارٌ ما يلبثُ أنْ يصيرَ أمساً..أمساً آخرَ مُضافاً إلى ميراثِ العدم.
لا أقولُ شيئاً ولا تنطقين بشيء. لاأنا أتذكّرُ ولا أنتِ. وانتهى الأمس.
صَمَتْنا طويلاً – نهاراً بمساحةِ دهر- ولم نعثر، في طولِ صباحنا وعرضه، على ما يَصلح للتذَكُّر.
نهارٌ بلا أصدقاء. نهارٌ بلا كلمةٍ أو ذكرى. نهارٌ قطعةُ ليلْ.
: النهارُ فَرَجٌ مسدود.
.. .. ..
نتناولُ وجبتَنا من الأدويةِ المبَطِّئةِ للموت. ثم نُخلدَ كلٌّ إلى ظلامِ نفسهِ، وكلٌّ إلى نفقِ كوابيسه.
ننامُ كمنْ يؤلمهُ النوم. ننامُ كمن يتأهّبُ لمغادرةِ النوم. ننامُ مذعورَين مخافةَ أن يستيقظ أحدُنا فلا يجدَ الآخر: (سرقهُ الموتُ من أحشاءِ نومَتِه).
لا ننامُ، إذْ ليس لدى أحدنا ما يرغبُ في تَصَيُّدِهِ داخلَ أحلامه.
ننام لننسى. ننام لنهرب. لنَتَخفَّفَ من أحمالِ النهار وضوضاءِ الصمت.
كلُّ ما نسينا أن نتألّمهُ في نهاراتنا الساكتة نجدهُ في انتظارنا على أعتاب الكوابيس.
في النوم يصيرُ واحدُنا أعزلَ، عاجزاً حتى عن قولِ: لا أرغبُ أن أصيرَ ميتاً.
النوم ليس استراحةً من شيء. هو حربٌ غيرُ متكافئةٍ بين موتٍ يتربّصُ وميْتٍ أعزل.
النومُ محطّةٌ لانتظارِ قطارٍ لا يأتي. محطّةٌ لا تمرّ بها القطاراتُ أصلاً.
.. .. ..
في النومِ : وحدكْ.
في النوم : ليس بمقدوركَ أن تصرخ (صرختُكَ تذوبُ في أحشائكَ قبل أن تبلغَ شفتيك). ليس بمقدوركَ أن تستنجدَ طالباً معونةَ مَن لا وجودَ له. ليس بمقدورك أنْ….
في النوم : يتدرّبُ الموتُ على ضرْبتِه.
النومُ فراغٌ خالصٌ. فراغٌ مليءٌ بفراغه. فراغٌ مليءٌ بما ليس حياةً.
فراغٌ : مسْودَّةُ موتْ.
.. .. .. ..
.. .. .. ..
نستيقظُ من مَوتةِ النومِ بأعينٍ صاحيةٍ وقلبين ناشفَين، غيرَ منتبهَين إلى أنّ الهواء حوْلنا مبلّلٌ بالدموع.
نقولُ :»صباح الخير»..كمنْ يقولُ: لم أمتْ بعد.
نستيقظُ على أملِ أنْ ننسى.
نعيشُ على أملِ أنْ ننسى.
نموتُ لننسى.
نستيقظُ لنقول: مرّةً أخرى، نحاول أن ننسى.
نستيقظُ على أملِ ألّا يجيء موعدُ النوم.
نستيقظ لننتظرَ موعدَ النوم.
نستيقظ لنتطلّعَ إلى عقاربِ ساعاتنا المشلولةِ ونسأل: ترى، ألمْ يحنْ بعدُ موعدُ النوم؟
ينظرُ كلٌّ منا في عينِ الآخر (في عينِ هواءِ الآخر) كمن يريدُ أنْ يسأل: أيكونُ ظهري قد انحنى وتَقَوّسَ أثناء النوم؟
أتكون الشيخوخةُ لا تَنْشط إلّا أثناء النوم؟
أيكون الموتُ لايعملُ إلّا أثناء النوم؟
أيكونُ النوم……؟
.. .. .. ..
نصمت ، ونواصلُ الصمت.
: لا يقولُ شيئاً مَن لا يحلمُ بشيء.
صمتُ الخائفِ مشحونٌ بِدويِّ صرْختِه.
أسوأُ ما في حياةِ الناس أنّ أحداً لا يستطيع سماعَ صوتِ مَن لا يتكلّم.
نعم! ما من بلاغةٍ أذكى من صمتِ الحيوانات.
.. .. .. ..
نتحاشى أن نستذكرَ أحلامَنا، مخافةَ أن يكونَ الأصدقاءُ الذين ماتوا في أحلامِ أحدِنا قد تمَّ دفنُهم في أحلامِ الآخر.
.. والآن، إذ لم يُتَحْ لنا أن نفعل ما يستحقّ التذَكُّر، نكتفي بالسؤال:
ما الذي فعلناه؟
:عشنا حياتنا في النسيان. ونموتُ كي يتذكّرنا الآخرون.
.. .. ..
نتلفّتُ كمن يقرأ الهواء: أين ما عشناه؟
نتلّفتُ ونقول: كأننا لم نَعِشْ !
.. .. .. ..
مع أولِ جرعةِ هواءٍ شهَقْناها لحظةَ انزلقنا من خُرْمِ الحياة الصغير، بدأنا العدَّ العكسيّ لمناورةِ الموت.
القابلةُ،كمن يتمنّى لنا الفوزَ بجائزةِ نهايةِ السباق، اكتفتْ بضربةٍ صغيرةٍ على المؤخّرة، ضربةٍ تقول: «هيّا! الحياةُ في متناولِ اليد».
وكان ثمّة مَن يرغب في التصديق.
.. .. .. ..
.. .. .. ..
نستيقظُ لننام.
ننامُ…ونستيقظ.
نتفرّجُ على التلفزيون كمن يتفرّج على حياةِ نفسِهِ وكوابيسِ نفسه. نتفرّج على ما لا نرغبُ أنْ نكون شركاءَ فيه. نتفرّجُ على أفكارِ جثاميننا الخائفة.
بلى: في صمتِ الخائفِ يُسمَعُ دويُّ صرختِه.
.. .. ..
ننامُ ونستيقظ.
ننامُ …وننام.
سيأتي يومٌ يكونُ لابدَّ فيه مِن نومةٍ أخيرةْ.
سيأتي يومْ…
.. .. ..
: إذا كانت الأبديّةُ غيرَ ممكنة
فهذا يعني أنّ الإنسانَ قد وُلِدَ ميْتاً.
حسناً! إذا كان ذلك واقعاً لا محالة، سأبدأ بالموت منذ الآن.
.. .. ..
أسمعُ صوتاً يُعزّيني: لا تخفْ! موعدُكَ ليس الآن. لكنْ، سيكون ذلك «يوماً ما».
هاأنذا، منذ الآن، أُقيمُ في الـ «يوماً ما».
.. .. .. ..
.. .. .. ..
لكأننا شقيقان في الحيرةِ وتعاسةِ اللحم.
تسألينني: لماذا تبكي؟ وأسألكِ: لماذا تبكينْ؟
أسمعُ صمتكِ، وتسمعين دويَّ صمتي:
«إذا كان لابدّ أنْ يحصل ذلك في الغدْ
فلنعلمْ إذن أنه حاصلٌ منذ اليوم».
.. .. ..
حقاً. إذا كان لا بدّ لذلك «الشيء» أنْ يقع، فلنجرّبْ هذه الشجاعةَ، لعلّنا نتذكّرُ ذلك في الغد، يومَ نكون قد صرنا أمواتاً بحقّ. ليجرّبْ أحدُنا أن يكون شجاعاً لمرةٍ واحدةٍ وأخيرة. لنجرّبْ أن نقول ما نسيناهُ طوالَ حياةٍ كاملةْ:
لشدّما نحنُ في حاجةٍ إلى الرأفة.
6/آذار/2011

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى