يوميات

الشجن يجب ألا يسد فتحات الناي

ـ 1 ـ

هذه السنوات الطويلة التي عشتها، تبدو كبيوت النمل المهجورة، مليئة ببقايا أرجل مبعثرة، وقرون استشعار ممزقة، وقمح مفتّت، وآثار دروب مرت عليها أزمنة القوافل…وثمة، في مكان قريب، ثقب يفضي إلى باطن الأرض.

ـ 2 ـ

ما أصعب هذا البياض وأنت مليء بسواد قلبك.
عالم فارغ من عذوبة الأجراس
عالم بلا كفاءة العشب.
وقليل الرحمة كقاتل مأجور.
ليس لدى الأغلبية الصامتة غير عويل مؤجل.
أمشي في مدحت باشا والحريقة،
في سوق التوابل، والتنابل، والتاريخ،
بشر متعرقون. أنوفهم طالت ممدودة إلى مراقد الروائح.
زهورات وعطورات، ورائحة آسيا البعيدة، والهند وعُمان.
أحاول قبلهم، أن أمدّ إلى التوابل أنفي لأنتقي ما يحسن سمعة الأشياء.
أتذوق على مهل ذاكرة الروائح…
لكنني لا أشم شيئاً سوى…رائحة حريقي !

ـ 3 ـ

موغل في الصدأ
كأنه حديدٌ هذا الصمت.
ليس الصباح سوى صدأ
والظهيرة تبدو كأنما لا أحد يريد فيها تناول طعام الغداء.
مشيت حتى أصبح شريط حذائي خط هاتفي الوحيد.
ما من مساء أسود وصدىء كهذا المساء.
يجب أن ترى الأحزان وأجراس بكاء العالم،
ليس عندما يغادرك أحد…بل عندما تصبح المغادرة أفضل أنواع البقاء!

ـ 4 ـ

هذا هو الخميس… ذئب الأسبوع الملعون.
ويوم اغتسال القبرات في نبع بارد
انتباه الأعضاء إلى مسرات كلاب الموسيقى.
ثمة رقصة تخمّرت واحمرّ خداها. عابثة بشعر يغمره النور من توهجات الجسد.
الخميس الذي بات مكروهاً في محنتنا الحربية.
الخميس الذي يدرك فيه المفارقون أحبتهم أنهم الآن أكثر وحدة من فجر بلا بشر، وشمس بلا عصفور، ونبع بلا ضفادع.
ما زال هذا الرجل الواقف على ناصية الوقت… لا يحس أنه ثاكل كأم غاب عنها ثوب ابنها المنشور على حبل الغسيل.
ما زال يسكن في قلبه العهد القديم، وأورشليم تحيط بها أسوارها وسيوف الغزاة.
الرجل الواقف على ناصية الوقت يشحن أبهة النحاس لمراثٍ قادمة، آتية دائماً من عويل الجهات.
الريح دلت على عاصفة!

ـ 5 ـ

ما من أحد يستطيع الشك في قدرة النهايات على إدعاء النهايات. هي الصانع فكيف تنسى خيط حرير الألم؟
في نهاية روايتي “شكر للندم” يلتقي البطلان في مشفى.
الشاعر في الرواية الباحث عن الحب وديمومته ومصيره النهائي .
والفدائي، صديقه، الذي خاض حروباً خاسرة، فانتهى إلى عاطل عن العمل. وقد اتخذ قراراً أن يصبح ثرياً دفعة واحدة.
ـ الشاعر: هل عرفتني؟
ـ الفدائي: ولو… ألست القائل” “طريق الثروة مفروش بفقر لا شفاء منه؟”
الشاعر: إذن…أنت هو الذي قال لي:
عمر الحب طوال مدة التحمل؟
تعانق الصديقان، فقد أوصلهما الحب، والبحث عن الثروة إلى مشفى الأمراض متعدد الاستعمالات.
ملاحظة الآن” “آخر أخبار الفدائي هذا…أصيب بالخَرَس.
أما الشاعر، فآخر أخباره، أصيب برصاصة في يد الكتابة.
هو يتهجأ بأصابعه أحرف الطفولة.

ـ 6 ـ

سأعلم نفسي أحرف الهجاء الأولى من جديد، وأتردد على صفوف ذاكرتي، أحك رمالها بقدمي على شاطىء المتوسط، وأفتش عن خاتم ضاع في مكان قريب من أطلال أوغاريت. سأعلم نفسي الترحال لا الرحيل، المغفرة لا الاستغفار، سأعلمها الخطى والخطايا والأخطاء. وأقود عماي إلى صوابي، وأفتح كالصباح باب دهشتي. وحين أنهي تعلمي…أعود مرة أخرى طفلاً، يتعلم من جديد “أبجدية” أولى!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى