‘يوم الجراد’ .. رواية حرافيش هوليوود
تعتبر هذه الرواية “يوم الجراد” هي الرواية الأولى للروائي الأميركي اليهودي ناثانيال ويست (1903 ـ 1940) التي تترجم للعربية، وهي الرواية التي اختارتها مجلة تايم ضمن قائمة أهم 100 رواية مكتوبة بالإنجليزية، وقد تحولت إلى فيلم بنفس العنوان تم إنتاجه وعرضه عام 1975 من إخراج جون شليسنجر وبطولة ويليام أثيرتون وكارين بلاك ودونالد ساثرلاند، ووفقا للمترجم عبدالرحيم يوسف فإن ويست الذي قدم أربع روايات وقصتين قصيرتين وشارك في كتابة مسرحيتين وسيناريوهات 13 فيلما، المعلومات عنه في المصادر العربية ضئيلة جدا، حيث كتب عنه عبدالوهاب المسيري في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية” في باب حمل عنوان “الأدب اليهودي والصهيوني” وكتب عنه أحمد كمال يونس فصلا في كتابه “سبعة قصاصيين أميركيين”.
وأشار عبدالرحيم يوسف في مقدمته للرواية الصادرة عن دار آفاق أن ويست نشر رواياته الأربع بين عامي 1931 و1939 وفي عام 1933 بدأ عمله في السينما الذي كان ملهمه الأكبر في كتابة روايته “يوم الجراد” وقد مكنه عمله في السينما من أن يعيش حياة سهلة آمنة لأول مرة منذ إفلاسه 1929 لكنه “يكره أصحاب الأعمال في هوليود الذين يستغلون موظفيهم، ولا يتركونهم إلا بعد أن يلهثوا من التعب.
لقد حاول الهروب من هوليوود بتشى الطرق، انضم إلى الحزب الشيوعي كعضو رحالة يروج لنداءات الكتاب الأميركيين الذي عقد في عام 1935 كما روج لقرارات نقابة الكتاب السينمائيين، ثم عمل في جد ونشاط لصالح الديمقراطيين في صراعهم ضد الدكتاتورية في أسبانيا ولأغراض أخرى عديدة.
وقد ترجم عبدالرحمن يوسف مقدمة الكاتب ألفريد كازن التي تطرق فيها إلى هوليوود التي فقدت سحرها hطلاقا فلم تعد انطلاقا من ثمانينيات القرن العشرين عاصمة السحر ومصنع الأحلام الذي أثار فيما مضى ملايين الأميركيين كأكثر الأماكن السحرية وفي نفس الوقت المستحيلة على وجه الأرض. مذكرا بأفلامها ونجومها الكبار، علاقتها بأعمال كبار الروائيين مثل وليام فوكنر وألدوس هكسلي وكريستوفر إيشيروود، وجون دوس باسوس، ليدخل بعد ذلك إلى ناثانيال ويست باعتباره أحد صناع الأفلام ويرى أن روايته “يوم الجراد” كانت مختلفة عن روايات هوليوود كون موضوعها “لم يكن من النجوم بل الحرافيش الذين يدبون على أطراف عاصمة السينما”. حيث التقط هؤلاء الزعر والدهماء، حرافيش هوليوود الذين أتوا إليها فقط ليجدوا أنفسهم مخدوعين.
وقال كازان “بين كل الروايات الكثيرة عن هوليوود تظل رواية (يوم الجراد) هي الأكثر حدة في نبرتها والأكثر توجها في شخصياتها وأحداثها، والأكثر إدهاشا في تأكيدها واهتمامها بالجموع، إننا حين ننظر إليها فقط كعمل روائي فقد تكون أقسى هجوم من نوعه حدث تحديدا على هذا النوع من الناس الذين لم يزعج مراقبو المشهد الهوليوودي أنفسهم أبدا بملاحظتهم”.
وكشف كازان عن أن “يوم الجراد” كان عنوانها الأصلي هو “المخدوعون” وما كان يشغل بال ناثانيال ويست في الأغلب هو هؤلاء الناس الساخطون بشدة حتى أنهم في المشهد الأخير ـ البالغ القوة ـ من الرواية يتحولون إلى حشد من الغوغاء القتلة.
وحلل كازان أعمال ويست ليؤكد أن رواية “يوم الجراد” تصور عددا من الغرائب: قزم يتكسب رزقه من العمل كوكيل لمراهنات سباق الخيل، يتحدث بشكل فظ، ويتردد على عاهرة تقذفه من حجرتها كصرة ملابس قديمة. ممثل كوميدي فاشل يكاد يموت بمرض القلب ويطوف بالبيوت ليبيع ملمع فضة مصنع منزليا وردئ النوع لأصحاب البيوت، الذين يجبرون حينها على مشاهدته وهو يؤدي فاصله التمثيلي.
أما ابنته فهي شقراء باردة ذات شعر أصفر باهت تستثير القزم وفنان الاستوديو تود هاكيت وكاتب حسابات فندقية متقاعد، في الوقت الذي تتألف حياتها العاطفية من حكايات أحلام اليقظة والتي أحيانا ما تستغرق منها أياما وهي متمددة على ظهرها. هناك أيضا أشخاص من الإسكيمو “كانت عائلة جينجو” من الإسكيمو وقد حضروا إلى هوليوود لإضفاء بعض اللمسات الواقعية على فيلم عن الاستكشاف القطبي. ورغم أن الفيلم عرض منذ فترة طويلة، إلا أنهم رفضوا العودة إلى ألاسكا، فقد أحبوا هوليوود. كذلك هناك رعاة بقر الاستويوهات وتشكيلة المكسيكيين المتخصصين في مصارعة الديوك.
ورأى كازان أن ويست ترك بشكل واضح عملية صنع الأفلام الفعلية خارج روايته وركز على أشخاص مصابين بالخدر أكثر من المعتاد ويفتقرون إلى الحيوية. والمثال الأكثر تأثيرا لرجل من هذا النمط هو “هومر سيمبسون” الذي عمل ككاتب حسابات لمدة عشرين عاما في فندق “مد ويست” والذي أتى للاستشفاء، وقام بتأجير طوخ في “بينيون كانتون”. “كان فقط ثاني منزل عرضه عليه السمسار لكنه أخذه لأنه متعب”.
إن هومر يبدو فقط وبالكاد ملحقا بمحيطه، إن هذا المحيط لا يحتويه بشكل دقيق، إنه بشكل ما ملصق على جنوب كاليفورنيا مثله في ذلك مثل المستوطنيين الكثيريين جدا هناك، والذين لم يكفوا أبدا عن الشعور بأنهم عابرون. بذكاء لامع وعبر عينه البديلة ـ تود هاكيت ـ يجعلنا ناثانيال ويست ننظر إلى كل تفصيلة مصطنعة يجب على هومر المسكين أن يعيش معها.
ويواصل كازان تحليله للرواية مشيرا إلى سقوط هومر تماما وبلا جدوى في حب “فاي جرينر” البلهاء. “هذه الذروة العاطفية لحياته. حتى هذه اللحظة كان هومر ضعيفا في الإحساس خائفا أن يحس. عندما يستيقظ في الصباح يشعر بأنه “أكثر غباء وانهاكا من المعتاد. كان دائما هكذا.. فضلات مشاعره فقط . هومر هو رجل الجموع الذي يعد بمثابة المركز الرمزي للرواية. لكنه الآن يعيش من أجل رؤية “فاي جرينر” التي حتى لو لم تكن مشغولة بخيالاتها فإنها لم تكن لتقدر على الاستجابة لرجل ضئيل الشأن للغاية مثل هومر سيمبسون.
في النهاية تسمح “فاي” لنفسها بتلقي الدعم من هومر الذي يحصل على أي شيء في المقابل، وإذ تضجر من اهتمامه المستمر فإنها تلقي به إلى الخارج. وأخيرا عندما يموت والدها “هاري” المهرج الفاشل تفسر “فاي” المنغمسة في ذاتها سكتته القلبية القاتلة على أنها المزيد من تهريجه الفاشل. ومع ذلك فإنها ليست بلا قلب، إنها فقط غافلة.
وأضاف كازان أن سخرية ويست تحول جنازة هاري إلى مصدر تسلية مفتوحة لهذه الشخصيات الملولة وفاقدة الإرادة. ومثل عائلة الإسكيمو التي تظل في هوليوود بعد أن عرض فيلمها، يستمتع كل هؤلاء الغرباء عن هاري جرينر ـ والد “فاي” لأنهم لا يفعلون شيئا غير ذلك. كل هذا الملل والفراغ وافتقاد المعنى في قلب هوليوود إنه لنذير. فـ “المخدوعون” في رعبهم المتنامي سيتحولون قريبا إلى العنف الذي هو ملمح يومي في الحياة الأميركية والانفجار الغوغائي الذي ينهي الكتاب له نظيره في زلازل كاليفورنيا والمحيط الهادي العاصف الذي ينحر الشاطئ والصورة الدائمة في رأس تود هاكيت عن احتراق لوس أنجلوس في عز الظهيرة.
ولفت كازان إلى أن حشود هوليوود ـ بالغة التضليل عندما تطارد أوتوجراف نجم أو تصطف من أجل ليلة افتتاحية في تملق ظاهري ـ تريد في الحياة أن تقتل معبوديها. تلك واحدة من أذكى تبصرات ناثانيال. في الأخير تأتي الذروة الرائعة عندما يجن الحشد في افتتاح ما ويضربون خبط عشواء. يفكر تود في الحشد تماما قبل أن يكتسحه تياره المندفع وينقذه البوليس من الأذى. يتأمل سخط هؤلاء الذين قد أتوا إلى هوليوود بحثا عن الفردوس، عن تعويض لحياتهم الشاقة والتافهة بشكل مؤلم.
وأوضح أن هوليوود كانت بالنسبة لأفضل روائييها مرآة استنسخت فيها عاصمة السينما تلك كل الاهتمامات والهموم الرئيسة للكاتب. لم يصور سكوت فيتزجرالد آخر أباطرة المال في كثير منه على أنه البطل الأخير على طريقة فيتزجرالد القديمة ـ “مونرو ستار” رجل صاحب أذكى المدركات لذلك هو محكوم عليه بالدمار. أما نورمان ميلر في روايته “حديقة الغزلان” فلم ير في ملهى هوليوود المفضل “بالم سبرينجز” شيئا غير المنتجين الواقعين في شرك الهيستيريا الماكارثية وكذلك عناصر المشهد المفضل لـ “ميلر”: حفل العربدة الجنسية”.
أما أنجح روايات هوليوود الحديثة ـ رواية جوان ديديون “العبها كما هي” فتصور كل شيء عبر عيني نجمة تعاني من انهيار عصبي. تربط جوان ديديون بحسها المحافظ بين اهتياجات بطلتها العصبية وبين رموز الانحلال الأميركي مثل حالات الإجهاض والشذوذ الجنسي وتعدد العلاقات والطرق السريعة المميتة ذات الخمس حارات والتي تقود ماريا ويث المسكينة عربتها فيها جيئة وذهابا لكي تظهر أنها تحتفظ ببعض التحكم في حياتها. مشكلتها أنها لا تستطيع تجاوز تدريبها “الويسترن” المبكر مع أب على نمط الممثل “جون وين”. أما الآن فهي مبتلاة بـ “التهتك” و”الافتقار للجذور” الأميركية. وبعد تحريض صديق مثلي على الانتحار، تؤخذ إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث تحكي لنا منها قصتها الآن.
ولفت كازان أنه بعكس جوان ديديون في “العبها كما هي” المتخصصة (الذاتية جدا بل الراثية للذات) كان ناثانيال في “يوم الجراد” موضوعيا سياسيا متبصرا ولذلك كان أكثر روائيي هوليوود بعثا لليأس.
إن “يوم الجراد” هي هوليوود بلا فتنة، بلا أدنى تخفيف للعبث والقسوة الفعليين المتضمنين في مدينة ـ في الحقيقة صناعة ـ مجهزة تماما للـ “نجاح” لدرجة أنها تمتطي على الفور أي شخص يسقط تحت عجلاتها. ومثل كل روائيي هوليوود المجيدين رأى ناثانيال المكان كرمز لكل ما هو الأكثر إسرافا وفسادا وبعدا عن الانضباط في الحياة الأميركية. لكن ناثانيال ويست تفوق على أي روائي آخر منشغل بأساليب هوليوود المتخصصة، في رؤيته للمستقبل الأميركي متمثلا في كل هؤلاء الناس الذين اعتقدوا أنهم تخلصوا من ماضيهم. ولكونه هو نفسه نتاجا لسنوات العشرينيات في القرن العشرين ومذهبها الفردي فقد أدرك الحقيقة الباقية خلف الأحوال الأميركية في الكساد الكبير. رأى أننا نعيش عصرا ليس فقط ذا ذوق جماعي (كانت هوليوود هي الصانع الرئيس) ولكن أيضا ذا تحكم غير مؤكد إن الجمهور المنعزل لن يقبل دائما أن يبقى محبوسا.
ميدل ايست أونلاين