يروي كتاب «وراثة القنبلة: انهيار الاتحاد السوفياتي ونزع السلاح النووي الأوكراني» (منشورات جامعة جون هوبكنز ــــ Inheriting the Bomb: The Collapse of the USSR and the Nuclear Disarmament of Ukraine) لكبيرة الباحثين في «مشروع إدارة الذرة» في «مركز بيلفر» التابع لكلية كينيدي في «جامعة هارفرد» ماريانا بودجيرين، كيف كانت أوكرانيا ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم تملك مخزونات نووية أكبر مِن الصين وفرنسا وبريطانيا في ذلك الوقت. لكن كييف قررت نزع السلاح النووي. وسعى المسؤولون الأوكرانيون إلى الاعتراف بأن بلدهم المستقل حديثاً عن الاتحاد السوفياتي، كان الوريث الشرعي لجزء من المخزون السوفياتي، ويستحق المعاملة المتساوية مع روسيا، والتعويض المالي، والتعهدات بأن نزع السلاح لن يعرّض أمن أوكرانيا للخطر.
وفي مقابل نزع السلاح النووي، تلقت أوكرانيا ضمانات أمنية من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا في كانون الأول (ديسمبر) 1994، عبر وثيقة عرفت باسم «مذكرة بودابست». لكن هذه المذكرة سقطت عام 2014 حين ضمّت روسيا لشبه جزيرة القرم، ثم أطلقت العملية العسكرية ضد كييف (2021). ومع تزايد وجهة النظر الغربية بأن التخلي الأوكراني عن السلاح النووي يعتبر خطأ استراتيجياً، إلا أن بودجيرين تعتبر هذه النظرة مُضللة، وغير دقيقة. تعتقد أن المشكلة الرئيسية في هذا النوع من الآراء هي الافتراض بأنه يمكن للمرء عزل وتعديل متغير واحد فقط (قرار الاحتفاظ بالأسلحة النووية) من دون تعطيل الشبكة الأوسع من العوامل السياسية والاقتصادية الدولية والمحلية التي أدت إلى ظهور أوكرانيا المعاصرة. ولو رفضت كييف نزع السلاح، لما كانت هي الدولة نفسها التي هي عليها اليوم.
غالباً كانت ستصبح أوكرانيا دولة منبوذة في وقت لم يكن فيه استقلالها مضموناً، وما كانت لتنضمّ إلى المجتمع العالمي كعضو مُستقل. حتى لو تمكنت أوكرانيا المسلّحة نووياً بطريقة أو بأخرى، من الإبحار بمفردها في بيئة دولية أكثر عدائية، فإنها لم تكن لتقيم علاقات واسعة النطاق مع الغرب كما فعلت في العقود التي تلت نزع السلاح النووي. تشير بودجيرين إلى أنّ حادث تشيرنوبيل النووي في نيسان (أبريل) 1986 والمحاولات الفاشلة التي بذلتها القيادة السوفياتية للتستر على الحادث، كان سبباً في تحفيز القوى المؤيدة للاستقلال في أوكرانيا في وقت بدأت فيه سياسة البريسترويكا التي قام بها ميخائيل غورباتشوف لتحرير الاقتصاد وإطلاق الحريات السياسية في الاتحاد السوفياتي.
لقد اجتاحت المشاعر المناهضة للطاقة النووية الحركة الوطنية الديمقراطية الأوكرانية، التي فازت بنحو ربع مقاعد البرلمان في الانتخابات الأوكرانية، أول انتخابات متعددة الأحزاب وآخرها التي أجريت في الاتحاد السوفياتي في آذار (مارس) 1990. بعد أشهر، انضمت المعارضة الديمقراطية إلى الشيوعيين الوطنيين في البرلمان لإعلان سيادة الدولة في أوكرانيا، في أعقاب إعلانات مماثلة من قبل روسيا والجمهوريات السوفياتية الأخرى. بالإضافة إلى التأكيد على الحق في تشكيل جيش وإدخال عملة وطنية، تصورت حركة الاستقلال أوكرانيا دولة محايدة لا تمتلك أسلحة نووية. تشير بودجيرين إلى أنه بالنسبة إلى الحركة المؤيدة للاستقلال الأوكرانية، فإن التخلي عن الأسلحة النووية لم يكن يتعلق فقط بتشيرنوبيل؛ لقد كانت مسألة أمنية حرجة. وطالما ظلت أوكرانيا تحتفظ بأسلحة تمر قيادتها ومراقبتها عبر موسكو، فإنها لن تتمكن أبداً من تحقيق السيادة الحقيقية.
مع تفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991، حجز مصير الترسانة النووية السوفياتية قمة أجندة السياسة الأميركية. كان التركيز النووي للرئيس جورج بوش الأب نابعاً مِن أن هذه الأسلحة قادرة على إنهاء البشرية. لكن الدرجة التي تغلبت بها على الاعتبارات الاستراتيجية الأخرى – وبالتحديد علاقة أميركا المستقبلية مع الجمهوريات المكونة لها – وضعت واشنطن في موقف مثير للسخرية يتمثل في محاولة إبقاء غورباتشوف في السلطة والاتحاد السوفياتي على قيد الحياة ضد رغبات الجميع تقريباً باستثناء غورباتشوف. من هنا، كان الخطاب الشهير الذي ألقاه بوش أمام البرلمان في أوائل آب (أغسطس) محذّراً من مخاطر «القومية الانتحارية».
ناضل المسؤولون الأميركيون للتكيّف مع تسارع عملية التفكك، وخصوصاً بعد محاولة الإطاحة بغورباتشوف بعد أسابيع قليلة على زيارة بوش. أطلق «انقلاب أغسطس» سلسلة من الأحداث التي بلغت ذروتها بزوال الاتحاد السوفياتي، وكانت مسألة مستقبل أوكرانيا في قلب الدراما. وفي سعيه لانتزاع السيطرة على مؤسسات الحكومة المركزية من غورباتشوف، انضم الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى أوكرانيا، التي أعلنت استقلالها بعد أيام قليلة على الانقلاب. وتمكن ليونيد كرافتشوك، رئيس الحزب الشيوعي الأوكراني من التفوق على نظرائه في موسكو، وتأمين الاستقلال الكامل لأوكرانيا بعد تصويت ساحق بالموافقة في استفتاء أجري في كانون الأول (ديسمبر) 1991.
ظلت الأسئلة الأساسية حول مصير الأسلحة النووية السوفياتية بلا إجابة، لكن الولايات المتحدة أصرّت على ضرورة خروج دولة نووية واحدة فقط من الانهيار السوفياتي. وقد اعترفت معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، الموقعة عام 1968، بخمس دول فقط تمتلك أسلحة نووية هي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لم يكن هناك تصوّر بأن أحد الموقعين، أي الاتحاد السوفياتي، سيتفكّك إلى دول عدة. خشي المسؤولون الأميركيون من تحول الطلاق السوفياتي السلمي إلى أعمال عنف، وهو ما من شأنه أن يحول المنطقة إلى يوغوسلافيا ضخمة تمتلك أسلحة نووية. ومع كره أميركا لتوسع النادي النووي، رأت أن الرهان الأكثر أماناً هو أن تحلّ روسيا محل الاتحاد السوفياتي في معاهدة منع الانتشار النووي.
ومع ذلك، كان يستحيل على واشنطن أن تتجاهل حقيقة أن ثلث الترسانة السوفياتية موجودة خارج الأراضي الروسية. هكذا أصبح إقناع بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا بنزع سلاحها أولوية قصوى لواشنطن. لكنها تفاجأت عندما طالبت كييف بأن يكون لها دور في العملية ودافعت بإصرار عن مصالحها على طاولة المفاوضات.
تتبع بودجيرين كيف تغير موقف أوكرانيا الأولي بشأن التخلي عن الأسلحة النووية، مع تزايد قلقها من جهود روسيا لترسيخ نفسها كقوة مهيمنة في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي. وأثارت أزمة الانفصال في شبه جزيرة القرم في أوائل 1992، والتي أججتها القوى السياسية المحافظة في موسكو، أعصاب المسؤولين الأوكرانيين، الذين كانوا يخشون أن قطاعات كبيرة من النخبة الروسية لم تكن مستعدة لقبول استقلال أوكرانيا. في ربيع 1992، أكد كرافتشوك «السيطرة الإدارية» على الأسلحة النووية الموجودة على الأراضي الأوكرانية، ما وضعه على خلاف مع موسكو وواشنطن. لكن قراره لم يكن يتعلق بالرغبة في الاحتفاظ بالأسلحة النووية بقدر ما كان وسيلة ضغط متاحة للحصول على الاعتراف بالمصالح الأمنية المشروعة لأوكرانيا.
في هذا السياق، بدأت أوكرانيا تصر على أن تقدم الولايات المتحدة ضمانات أمنية مقابل نزع السلاح النووي. أثناء زيارته للرئيس بوش في البيت الأبيض في 1992، أعرب كرافتشوك عن مخاوفه بشأن أزمة القرم والانتقام الروسي المحتمل، مشيراً بقلق إلى «الميول الإمبريالية التي بدأت تظهر في روسيا». وقال لبوش إن اتفاق نزع السلاح النووي لا يمكن أن يترك أوكرانيا بدون ضمانات أمنية «يعوّل عليها». رفض البيت الأبيض طلب كرافتشوك، مشيراً إلى الالتزامات العادية التي تعهدت بها الولايات المتحدة في معاهدة حظر الانتشار النووي ووثيقة هلسنكي النهائية. مع اقتراب نهاية ولاية بوش، وخاصة بعد تولي كلينتون منصبها، أدركت الولايات المتحدة أنها ارتكبت خطأً في إعطاء الأولوية للقضية النووية في علاقتها بأوكرانيا على حساب القضايا الأخرى. ركز البيت الأبيض على استراتيجية مشاركة أوسع، على أمل إقناع كييف بأن مصالحها الأمنية ستؤخذ في الاعتبار. ولكن السياسة الداخلية في أوكرانيا أصبحت أكثر تعقيداً. وكان على كرافتشوك أن يتعامل مع البرلمان الذي أقحم نفسه في المحادثات النووية مع مطالبات متزايدة الإصرار بالضمانات الأمنية والتعويضات المالية.
في النهاية، كانت هناك عوامل متعددة أقنعت المسؤولين الأوكرانيين بأن الأسلحة كانت بمثابة عائق أكثر من كونها أوراق ضغط. علاوة على ذلك، كانت المشاركة الديبلوماسية الأميركية والمساعدة المالية حاسمة في إيجاد حلّ تتفق عليه كييف وموسكو. وفي النهاية، نقلت أوكرانيا رؤوسها الحربية النووية إلى روسيا مقابل اليورانيوم المنخفض التخصيب لتشغيل محطات الطاقة النووية لديها؛ وتفكيك آلاف الصواريخ والقاذفات والبنية التحتية الأخرى المرتبطة بها والحصول على مساعدة 500 مليون دولار من الولايات المتحدة؛ وعلى ضمانات أمنية في مذكرة بودابست. هكذا من خلال الدبلوماسية، تمكنت أوكرانيا من تأكيد مصالحها وسيادتها كدولة مستقلة حديثاً، والحفاظ على سيادتها مع قوتين عظميين نوويتين. وقد حصلت على الاعتراف لمطالبتها المشروعة بأنها ورثت جزءاً من الترسانة النووية السوفياتية، ما مهّد الطريق للحصول على تعويضات وصفقة أفضل مما كانت ستحصل عليه لو أنها تمسكت بالسلاح النووي.