القارئ داخل الرغبة البيضاء
سؤال جوهري في رواية “رغبة بيضاء” للكاتبة والاعلامية وحيدة المَي: من أنا؟
يمكن أن نجد في ثنايا إجابة ما عن هذا السؤال، أسئلة أخرى. لذلك احتار علماء النفس في تحديد التصوّر المقنع لشخصية الفرد، لأنّ الإنسان كائن متحرّك ومتعدّد بطبعه، حتى الفلسفة، لم تتوصّل لتحديد نهائي في علاقة الجسد بالعقل.. الخ.
عالمنا اليوم الراضخ لسلطة القوي وبرامجه المتوحشة. ليس له وقت – القوي – لمراجعة حساباته خشية الوقت / الزمن أن يفلت منه فينقلب السحر على الساحر. لذلك كانت القوة الغاشمة هي الحاسمة والمسيطرة على قلم التاريخ. ماذا بقي للإنسان “الضعيف” كي يحارب هذا الجبروت. بقي له العقل والعاطفة، فطوّر في الفنون وجعل منها سلاحا يحمي الرّوح / الذات الإنسانية مَا أمكن.. فقط أن يكون الفنان صادقا مؤمنا برسالته.
يقول الإمام الشافعي:
إذا ما الظالم استحسن الظلم مذهبا ** ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فكِله إلى صرف الليالي فإنها ** ستدعي له ما لم يكن في حسابه
ويقول نيتشة: “لنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة”.
نعم الفن يقي الإنسان من أن يُختصر في البعد الاستهلاكي. أن يكون مجرّد “آلة صمّاء“.
الفن في نظر فرويد يعبّر عن الواقع، سواء كان هذا الواقع داخليا خاصا يالفنان، أو خارجيا يتمثل في المجتمع الذي يعيش فيه الفنان نحن أمام عمل فنّي صادق. مشهد متحرّك وَمتحرّر من القوالب الجاهزة. فهذه الرواية “رغبة بيضاء” للمبدعة الكاتبة والإعلامية وحيدة المَيْ حقّقت الكثير من المتعة بدءا بالعنوان وصولا للبناء العام للرواية.
هذا العمل الإبداعي – الروائي – أكّد بقوة عن ثقافة الكاتبة “الموسوعية” حيث سعت جاهدة وفتحت بابا على العلوم وخاصة الطبّي منها، حيث بحثت في مراجع الطبّ النفسي واستغلت مَا أمكن من خصوصيته لبناء شخصياتها هروبا من التناول العفوي.
فكرة هذا العمل وأن لاحت لنا مختصرة في علاقة الإنسان بالمقدس / المدنس – حسب تقديري – فإننا ومن خلال المزيد من التعمّق في قراءة “رغبة بيضاء” نكتشف الكثير من الأفكار التي تولّدت عن الفكرة (الأم). منها العيش في إطار عائلة تقليدية متدينة ترفض كل ما من شأنه أن يدنّس مسار حياتها.. عائلة تنتقي مفردات عيشها الحلال وتستنكر مَا يخاتلها من حَرام، كذلك هذا التنافر والتشتت الذي يحوم فوق رؤوس االشخصيات – المجتمع.
العنوان “رغبة بيضاء هذا العنوان العميق إشكاليّ نوع مَا. هل هو يخص رغبة الشخصية المحورية التي عملت على كسر هذه الحواجز التقليدية التي نشأت داخلها. هل هي رغبتها في إخراج المجتمع من هيمنة التسلّط والدكتاتورية. هل يعبّر – العنوان – عن رغبات باقي شخصيات الرواية التي تعيش (اللاوعي – الفوضى) هل الرواية تترجم رغبة الكاتبة في دفع القارئ للانتباه إلى عديد التفاصيل التي اقترنت بحياته وخاصة المجهرية منها. كل هذا وأكثر هو محمول هذه الفكرة بدءا بالعنوان والبناء الدائري وصولا للنهاية المفتوحة.
بداية الرواية تقدم حالة الشخصية “نبهان” وهو في “المأوى”. لقد فقد بصره وصحته بعد التعذيب والسجن لسنوات بسبب تهمة “النشاط السياسي بذاكرتي أرى الأشياء الظاهرة منها والباطنة. أنا رجل تقودني الداكرة وذكرياتي عكّازي تفتح في الظلام أبوابا ونوافذ وسراديب يأتي منها الشتاء والرّبيع. ترسم ذاكرتي ملامح هذا الفضاء. تصوّره كما لو رأيته سابقا وسجّلته في اللاوعي..” (ص 9).“.
إذا من الرؤية الضيّقة إلى الرؤية الموسّعة. هكذا تتوسّع رؤية الشخصية وتبني نوعا من التحدّي لتعلن عن وجودها.
الشخصيات
يقول هنري جيمس: “ما الشخصية إلا تقرير للحادث. وما الحادث إلا توضيح للشخصية“.
الشخصيات بدت إشكالية حيث يسود الغموض ملامحها. لا يمكن تحديد هذه الملامح إلا بعد قراءة متأنية للرواية. حتى أن الأسماء التي اختيرت للشخصيات كانت أسماء وظيفية وجزءا من حبكة النص.
ريحانة صديقة الشخصية الرئيسية نبهان زمن الجامعة. علياء منظفة في المأوى. ماجدة راقصة بنزل (تقاعدت فدخلت المأوى). وديان (ابنة ماجدة وهي مساعدة حياة “السكّير صديق الصدفة لنبهان) السيّدة صاحبة المأوى، والتي يلقبونها يالأم تيريزا.
هذه الشخصيات – كما سبق وقلنا – بثّت ملامحها على امتداد المسار السردي تماشيا مع إشكالية الموضوع المطروح. الفكرة اقتضت هذا الغموض، نطرا لما وراء هذه الشخصيات من أسرارِ دفينة ليس من السهل اكتشافها كان لكل شخصية من هذه الشخصيات دور مباشر في حياة “نبهان” وهو في المأوى. علياء المنظفة التي تهتم بنظافته وهو المسن (شبه المقعد) كانت لا تتوانى في إهانته. نجد نقيضها مع “وديان” مساعدة حياة.. دورها أن تعينه على العيش وتسلّيه.
المكان
هذا العنصر القوي في الرواية؛ عنصر بُنيَ بوعي وإدراك للعملية الفنية. كيف يمكن أن أقدم حكاية في غرفة ضيّقة ومغلقة يقرّ كل نقّاد السينما خاصة، على خطورة تصوير فيلم طويل في مكان محدود ومغلق. ومن الأفلام التي نجحت نجاحا كبيرا في هذه النوعية الفيلم الأميركي 12 angry men (12 عشر رجلا غاضبا) حيث دارت كل الأحداث في غرفة مغلقة.
الكاتبة وحيدة المي نجحت نجاحا كبيرا في هذه المغامرة. وكأنها تؤكّد على حقيقة القولة الفلسفية “أنا أفكّر .. أنا موجود” أي الوعي بالذات. أي هناك حقيقة أدركناها. وبعيدا عن كلّ “تفلسف” لا بدّ من عنصرين تتجذبان الذات الإنسانية هما “القضاء والقدر، والاختيار” أن تختار عن وعي فإنّك مؤهّل لخوض التجربة. ومؤهّل هذه تعني المعرفة / العلم.. وهذا حقيقة.
الشخصية المحورية رجل بصير لا يَرى. يعتمد وبقوة على الذاكرة والحواس.
أن تتلمس الأشياء وتعرفها ثم تتصرّف معها بثقة هذا أمر صعب. ليسَ لهذا البصير “نبهان” سوى ذاكرته وعكّازه. الأحداث دارت في غرفته بالمأوى، وهي غرفة مغلقة غالب الوقت. ونظرا لما تعرّض له من مظالم في طفولته وشبابه. ممّا أثّر على سلوكه في الحياة. أصبح ضحية الإنزواء. هذه صورة من جملة صور الكبت التي عاشها هو كبت الرغبة وإلزامه لعيش طفولة (سليمة) وسط عائلته المتدينة، وخاصة الأب الذي فرض عليه نمطا حياتيا محدودا لا يمكن له “انتقاده”.
“كبرتُ تتزاحم الأسئلة في رأسي حتى خبرتُ القراءة والكتابة. وبتّ أتمعّن القرآن وأتدبّره وألوذ بالتفاسير البسيطة. لم أنتج فكرة من الأفكار. أفكاري تركة موروثة. انكمشتُ عليها ولم أنقلها خارج ذاتي. كنت خجولا منطويا لا عالم لي إلا دراستي وريحانة التي نقرت باب القلب منذ أوّل يوم لي بالجامعة.. كلية الحقوق كانت جناحي للتحليق عاليا.. ” (ص 140 – 141).
كل الأحداث – حسبَ استراتيجية السرد – لم تبتعد عن غرفته وَما حوته من ديكور، الإضاءة، الشباك، الباب. داخل هذا المربّع الإسفلتي يقضي نبهان شيخوخته. يؤرّخها بشكل أو بآخر.. لقد عاش بين المربّعات الإسفلتية. الكتاب. المدرسة. المعهد. الجامعة. السجن. وأخيرا المأوى في انتظار المربّع القادم وهو الأخير. إنها المأساة / الملهاة إلى حدّ العبث.
الزمان
عنصر رئيس. هو إبرة البوصلة. فالذاكرة تعود إلى استجداء الزمان قبل المكان. لا يمكن للحدث أن يكتمل خارج الزمان، فعنصرا الليل والنهار لهما وقع كبير في ذاكرة “نبهان” خاصة.
الظلام كما يعلن عنه بطرق مختلفة، هو طفولته. شبابه في السجن. المجتمع المهمّش. ثمّ إصابته بالعمى النور. لم يتمتع بهذه النعمة كثيرا. كل حياته تعثّرات.. نكبات الإنسان مجموع نكباته – فوكنر حاول “نبهان” أن يتخلّص وينفض عنه كل الترسّبات التي أثقلته. لكنه لم يوفّق. بقيَ “مدفونا” لقد فقد كل ما يساعده على التحرّر من العوائق التي دمّرت رغبته في تكوين شخصيته المستقلة التي حلم بها.
إن اختيار شهر رمضان كخلفية للأحداث له دلالته الرمزية. هذا الشهر الدي له طعم خاص في نفسية نبهان منذ الصغر. إنه الجوع والعطش. إنه الطاعة والاستسلام. وكل محاولة للإفلات من هذا (النظام) يعني العقاب. (لذلك كان مصرا على الصوم رغم تحذيرات طبيبة المأوى). إذا من سجن الطفولة، إلى سجن الشباب بما في ذلك سجن القلب حين أحبّ ريحانة زميلته في كلية الحقوق التي غابت عنه بمجرد أن سجنه النظام. لم يحب غيرها هي أوّل حبيبة في حياته. لقد أحبّها بإخلاص وعنف.
يتذكّر نبهان.. كتبت ريحانة هذه الكلمات ودسّتها في كتاب:
“القلوب الهاربة من قفّازات الثلج يلبسها الحبّ برانيس الدفء. تبعث فيها الحياة وتركب خيولها إلى السماء..” (ص 109).
غرست نظراتها في وجهي المرتبك. هذه ريحانة قلبي. جنائن برتقال تفوح في دمي. وجهها المضيئ مثل مرايا الماء يشع بوجه الحياة. يبتسم فيحلّق قلبي بأجنحة شفيفة إلى المنتهى.
لقد أحبّها. افتقدها أثناء إحدى المظاهرات الطلّابية. غابت عنه منذ ذلك التاريخ. هو إلى السجن. وهي إلى (المجهول).
الشخصيات وعنصر الزمن والمكان كلها تشكّلت وتعاونت لقول هذه الحكاية. بما في ذلك الشخصية المحورية، حتى أننا نتسائل: هل يمكن للذات أن تقول كل شيء عن نفسها. حتى عن علاقتها بالأشياء البسيطة. منها الحلازين التي تربّيها “ماجدة” في المأوى للتسلية. وهو – الحلزون – رمز الاستسلام والغباء. وفي الوقت نفسه كانت “ماجدة” مغرمة بالمطربة “إيدي بياف” تردّد أغانيها بانتشاء كبير، ثم تفاجئنا الكاتبة بإدراج روايتها الأولى “نوة” في الأحداث.
” – وماذا عنكِ؟
– أنا هي ماجدة. علياء. السيّدة. والأخريات..
– تضيق رأسي عن فكّ الألغاز. أحبّ أن أموت مرتاح البال. ارحميني تعبتُ.
– لن تموت. سننتهي جميعنا قبلكَ أيّها العجوز. هيّا أوقف هذه الأسطوانة. أرغب أن تشاركني كلّ شيء أحبّه. نواصل ما تبقّى من فصول رواية “نوة”.
إذا حضور رواية “نوة” حضور وظيفي أكيد، لما في هذه الرواية من أحداث مأساوية وتقترب في إخراجها من الشريط البوليسي كل هذه العلامات المستعملة في هذه السردية لها دلالتها. لها تأثيرها الجمالي، وخاصة في عملية الوصف، وقد أكّدت لنا الكاتبة براعتها في هكذا خطاب. لقد قدمت لنا صورا متسلسلة، متسارعة وبطيئة، ومن عدّة زوايا كوجهة نظر. ولكنها كانت فطنة لدور القارئ. لقد تركت له مجالا للتخييل، للمشاركة في إعادة الكتابة واختيار مشاهذ إضافية ليست بعيدة عنه أن أحسن القراءة لهذا الأثر.
ميدل إيست أون لاين