11 شخصية تحت «غبار» الشيخوخة
انتظرَ الكاتب والمسرحيّ والشاعر السويديّ لارس نورين (Lars Norén) أن يبلغ الثالثة والسبعين من عمره كي يقدّم مسرحيّته «التراب» (La poussière) على مسرح الكوميدي فرانسيز الباريسيّ العريق. مسرحيّة أقلّ ما يمكن أن يقال فيها إنّها أظهرت فعلاً قيمة لارس نورين الأدبيّة والإنسانيّة والفكريّة. انتظَرَ هذا المؤلّف السبعينيّ أن يبلغ سنّ الشيخوخة، السنّ الأقرب إلى الموت، ليجسّد أحد عشر رجلاً وامرأة بلغوا سنّ الحزن والوحدة والفراغ، تلك السنّ التي يكتشف فيها المرء أنّه poussière، مجرّد تراب وإلى التراب سيعود لا محالة كما حُكِمَ عليه في سِفر التكوين.
إحدى عشرة شخصيّة من العجائز يقدّمها الكاتب السويديّ الذي يُعتبر من أبرز الكتّاب المعاصرين، يقدّمها من دون أن يفاجئ جمهوره بعمق نصّه هو الذي عُني طيلة مسيرته الأدبيّة بالإنسان وبتلك الذات التي لا تنفكّ تتخبّط بهمومها ومآسيها. وقد طالما تميّزت نصوص لارس نورين بتطرّقها إلى النفس البشريّة والتغيّرات الجوهريّة الوجدانيّة التي تطرأ عليها، كما أنّه طالما كان من الذين تطرّقوا إلى اضطرابات الإنسان وتخبّطاته ومخاوفه، وها هو اليوم يسلّط الضوء على الوداع. الوداع الذي لا تتجرّأ الشيخوخة على التلفّظ به لكنّها تطفح به عند كلّ صباح ومع كلّ مغيب.
يجسّد نورين الشيخوخة الفارغة التي تتذكّر وتنسى وتحزن وتشعر بثقل الفقد. وعلى مدار ما يقرب من الساعتين يقدّم لارس نورين صورًا مختلفة للإنسان الذي انتهى من العيش والتخبّط والنضال. يقدّم رجالاً ونساء عاشوا وأحبّوا وخسروا وحزنوا ووصلوا إلى المرحلة التي لم يعد يهمّهم معها الوقت. توقّفت شخصيّات نورين عن الركض خلف عقارب الساعة. توقّفوا عن التمسّك بالأرقام والمشاريع والمخطّطات. هم لا يعرفون حتّى كم لهم من الوقت وهم على هذه الحالة من الجمود والانتظار. انتظار ماذا؟ الموت؟ ربّما…
إحدى عشرة شخصيّة واقفة على شاطئ الحياة. إحدى عشرة شخصيّة تتلفّظ الواحدة منها بجملة، بكلمة، بذكرى، من دون ترتيب أو نظام أو توزيع أدوار واضح. شخصيّات واقفة، تتحدّث محتارة، تبتسم ثمّ تعبس ثمّ تصمت، لا هي تجد كرسيًّا تجلس عليه بانتظار النهاية ولا هي قادرة على خوض غمار البحر. ليبقى الحلّ الوحيد هو الموت.
وتكمن حنكة لارس نورين المسرحيّة في أنّه أحضر الموت إلى خشبة المسرح. فكيف نتحدّث عن الشيخوخة من دون الموت؟ كيف نتحدّث عن إحدى عشرة شخصيّة مستسلمة من دون تجسيد طيف الموت الذي يأتي في كلّ مرّة ليختطف وجهًا من الوجوه الإحدى عشرة؟ يأتي الموت بهيئة فتاة مصابة بلوثة عقليّة تمسك بيد الشخصيّة وتسير بها نحو حتفها، نحو ما هو خلف الستارة الشفّافة التي ترتفع بهدوء ومهارة وسط المسرح لتفصل ما بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
ستارة شفّافة هادئة صامتة، يقبع خلفها الأموات بينما يقف الأحياء أمامها بانتظار دورهم، يقفون أمامها يتأمّلون أمواج البحر التي ما هي سوى الجمهور المنقطع الأنفاس. ويجد الجمهور نفسه داخل لعبة تبئير (mise en abime) من دون معرفته أو موافقته، فتقول إحدى الشخصيّات إنّها ترى الحياة قاعة كبيرة فيها أناس كثر قابعون، وما الموت سوى مغادرة المرء هذه القاعة. وكأنّ الرحيل عن القاعة هو الرحيل عن الحياة وهو ما يحصل تمامًا على خشبة المسرح. فكلّ شخصيّة تخرج عن المسرح تموت وتجد نفسها خلف الستارة بانتظار أن تنضمّ إليها الشخصيّات الأخرى. ليصبح المتفرّج جزءًا من هذه اللعبة أو هذا النظام وبرحيله تموت المسرحيّة وتموت الشخصيّات ويموت هو نفسه.
ومن الملفت في نصّ لارس نورين قدرته الهائلة على إثارة الضحك. وليس الكلام هنا عن الضحك الهازل الخفيف بل عن الضحك الذي تولّده الفكاهة أو الكوميديا السوداء المغرقة في الواقعيّة. فيبعث نورين في الجمهور ضحكات متوتّرة ليس لطرفة أو حسّ ظرافة وإنّما لصلافة الموقف وعمق المأساة. يضحك المتفرّج بتوتّر لقسوة ما يراه ولإيغال النصّ في السوداويّة ولأنّه لا يعرف كيف يواجه واقعًا سيبلغه بنفسه.
يعالج نورين مأساة الشيخوخة وبؤس المسنّين بعين ثاقبة مؤلمة. فتقول إحدى الشخصيّات بكلّ بساطة إنّها لم تعد تعدّ الأيّام أو الساعات وهي لا تدري كم لها واقفة على هذا الشاطئ، ففي هذه المرحلة من العمر لا بدّ من تقبّل كلّ شيء والتكيّف مع كلّ شيء، فهذه هي الشيخوخة: انتظار لا شيء والتحوّل المتدرّج الوئيد إلى تراب. وكأنّ الشيخوخة هي انتظار على شاطئ رماديّ، انتظار فتاة صغيرة لتأتي وتُمسِك بيد مجعّدة وتقودَها إلى ما وراء الستارة. فتتحوّل المسرحيّة، التي قد يظنّها المتفرّج للوهلة الأولى تنتمي إلى مسرح العبث، تتحوّل إلى مسرحيّة المأساة البشريّة والشيخوخة وانتظار الموت.
وما ضاعف حدّة النصّ ديكور خشبة المسرح الفارغ الرماديّ الذي سُلّط عليه ضوء بارد. فيجد المتفرّج نفسه في مكان رماديّ بلون الشيخوخة، مكان هو فعليًّا شاطئ مهجور عرف الحياة في زمن بعيد ولكنّه يقبع الآن في حالة تدهور وتلاشٍ واضمحلال. شاطئ ضحكات بعيدة لم يعد يُسمع صداها، شاطئ شباب ولّى وطموحات بات الإمساك بها ضربًا من المحال.
أخذ البعض على لارس نورين في الصحافة الفرنسيّة توظيفه عنصر العري المستفزّ. لكنّ هذا التعرّي الذي رافق النصّ على خشبة المسرح لم يأتِ فعليًّا من دون مبرّر ولم يتعارض مع فحوى الكلام. فالإنسان يولد عاريًا ويموت عاريًا، والشيخوخة التي ما هي إلاّ المرحلة الأخيرة ما قبل الموت كان لا بدّ من أن تعانق الجسد البشريّ وأن تشذّبه من مظاهر الشباب والحياة والحضارة وأن تعود به إلى التراب عاريًا فارغًا جاهزًا للتلاشي.
تحتمل مسرحيّة لارس نورين «التراب»، على غرار أعماله الأخرى، عددًا لا يُحصى من الاحتمالات والتعليقات. فكلّ تفصيل من تفاصيل المشهد والنصّ والديكور والإضاءة والأزياء والأحذية، كلّ حركة من حركات الشخصيّات تحمل معناها ورمزيّتها وتوهّجها، وهذا ما يجعل نورين من أبرز الكتّاب المعاصرين في يومنا هذا. يذكّر كلّ خيط من خيوط النصّ بالمأساة البشريّة، بالموت الذي ينتظر خلف الأبواب وبالحياة المتقوقعة في الزوايا بملل وحزن. ويشير نورين إلى مسألة بالغة الأهمّية وهي أنّه انتظر أن يبلغ الشيخوخة ليكتب عنها بواقعيّة، كما أنّه لم يضع نصّه قبل أن يرى شخصيّاته، بل وجد في الشخصيّات والوجوه مصدرًا لكلماته وهو ما منح النصّ واقعيّته وإنسانيّته وهذا التوهّج الذي سيجعله خالدًا لا محالة. ولقول كلمة حقّ أخيرة، تمكّن لارس نورين بعمله هذا وأعماله الأخرى من الهرب من «التراب» ليبقى خالدًا في ذاكرة الأدب العالميّ.
صحيفة الحياة