13 نيسان (عباس بيضون)

 

عباس بيضون

13 نيسان يوم لم يتسن له أن ينسحب إلى الذاكرة وأن يصير من الماضي، رغم مرور عقود عليه لا يزال حاضراً. لا تزال تردداته وتداعياته مستمرة في الحاضر، في وسعنا القول أن تاريخاً بدأ به ولا يزال متواتراً متجدداً متوالياً إلى أيامنا. لن نقول بالطبع أنه فاجأنا، انه زلزال باغتنا في ليل، لم يأت بالتأكيد من الغيب، ولا من الفراغ، قبل 13 نيسان 1974 مرت نذر كثيرة به لم تفتنا، لكننا لم نتوقع أن تصل إليه، لم نتوقع أن تكون الساعة قد حانت، بل ولم نتوقع أن تحين. لقد أفلتنا منها مرة بعد مرة، وراودناها وانسللنا منها كثيراً، حتى تراءى لنا أن نذرها موهومة، وأن ثمة رعاية خفية لن تهجرنا، اننا في حرز منها، اننا نصب معجزة لا تفارق وتظل برغم الأسباب وبرغم الإشارات وبرغم التوجسات مثابرة.
لم يكن 13 نيسان استثناء في تاريخنا، لم يكن فريداً بالطبع فنحن لا نعرف اليوم الذي بدأت به حرب السنتين ولا حرب الثامنة والخمسين. كان لكل من هاتين يومه لكنه جرى في الزمن بالتأكيد، وصرنا نتحدث عن المعجزة اللبنانية، نقول هذا مجتمع مفتت لكنه يبقى مجتمعاً، وهذه دولة ليست أكثر من هياكل لكنها تبقى دولة، هذه سياسة ليس فيها سياسة وأكثر ما فيها النكاية والصدّ والتأليب والقفز على الوقائع والارتجال واللعب في أي اتجاه ومع أي طرف. هذا اقتصاد ليس له أي سياق ولا أي خط لكنه يبقى اقتصاداً زاهراً وتبقى السياسة سياسة، بل تكون وحدها سياسة في المنطقة التي تقوم فيها محميات عسكرية لا ضابط لها ولا قاعدة. كنا نتحدث عن المعجزة اللبنانية وفي ظننا أن محاولة سيرها وضبطها وتقويمها لا تنتهي إلا بافتضاحها وانكشافها وتهديدها بالتالي وربما زوالها. كنا نقول إن من الخير أن لا نتحراها وأن لا نسعى إلى فهمها وتحليلها فذلك قد يكون جناية عليها، وقد يبطلها ويجعلها تختفي، لم يخطر لنا أن نزاعاتنا وحروبنا وارتباطاتنا ونعراتنا قد تذهب بها. مثل هذا الخاطر رفضناه وحسبنا أن مثله قد يفسد الوضع، أن مثله قد يكون لعباً خطراً وجناية حقيقية. لذا لم نصدق 13 نيسان. ظننا أنه سيطوى في يومه. وأن غده سيكون ككل يوم وكل غد. وكالعادة قيل كلام كثير في ذلك ودارت حوله تطمينات من كل نوع، قلنا بالطبع اننا أخوة، واننا متعايشون منذ سنين لا تحصى وان النزاع ليس من شيمنا وان ما حصل حصل بتأليب الآخرين، بل بألاعيبهم فهم احتربوا على أرضنا ومن احتربوا منا صنائع لهم وأتباع ودمى.
مثل هذا الكلم بدا لأول وهلة مفحماً، فهو يصيب كلما انطلق ويصيب في أي مكان في أي قوم. لسنا الوحيدين الذي نقوله فنحن نسمعه من هنا وهناك. الجميع لا يرون أن العنف والعدوان من طباعهم ومن أخلاقهم والجميع لا يقبلون بالنزول درجة عن المحبة والطيبة والأخوة. مثل هذا الكلام قد يكون نعرة ولو بدا تبرؤاً من النعرات، وقلما نعرف شعباً يجاهر بضغائنه وما يبيته وما يكتمه أو يعلنه على الآخرين. مثل ذلك يعرفه في قرارته، لا حاجة به إلى فهمه أو تصوره فهو قد يكون فيه خفية عنه. قد يكون فيه وهو لا يدري أو لا يقر.
المهم أن 13 نيسان حصل وظل سره إلى الآن مطوياً لكنه كشف بواطن لم تعد من حينه مطوية. كشف أن ما يليه لن يكون إلا من تردداته، كشف أن التآكل البطيء أدى إلى تدهور لا نزال منذ ذلك الحين فيه، بل لا نزال نزداد تدهوراً ونتقلب في التدهور، لقد بدأ 13 نيسان انقساماً ما لبث أن تحول إلى تذرر وانقسام كل شيء على نفسه، وغرق كل جماعة في ضغائنها واجتماعها على نعرتها.
منذ ذلك الحين و13 نيسان هو زماننا. يبدأ في كل يوم ويبدأ من كل يوم، لقد دخلنا في حرب متواترة متوالية، حرب نحن وقودها وآلتها وضحاياها. هذا دمنا وذاك لحمنا وهذه أجسادنا. لكننا لا نعرف أين يصب هذا الدم وفي أي مجرى وإلى أين. انها ملحمتنا وهذا لحمنا طحين فيها، لكننا مع ذلك صرنا تحت أيدي الغير لدرجة اننا لا نعرف إذا كنا نتحرك بإرادتنا أم أن ثمة من يتلاعب بنا، وثمة من يسوقنا، وثمة من يخوض هذه المرة حقاً حربه بنا وبأفكارنا وأجسادنا. ذلك الكلام الذي اعتبرناه في يوم مجرد تنصل، أن هذه حروب الآخرين على أرضنا، يكاد اليوم يقال وتقوله الأطراف المتنازعة جهراً عن أنفسها وعن حالها. لقد وصل التدهور إلى أقاص لم نعد فيها شيئاً مذكوراً، التفتت جعلنا ضعافاً بل أكثر من ضعاف. التفتت جعل قيادنا في أيدي الآخرين وجعلنا أطيافاً بل أشباحاً، مجرد انعكاسات لمرايا الآخرين. نحن الآن جنود بلا أسماء وبلا أهداف، جنود لحروب غامضة صاخبة بقدر ما هي عمياء، نعرات تتفجر لأماكن أخرى وتصب في أراض أخرى.
13 نيسان ثابت متحول منذ ذلك الحين، لكنه يبقى دائماً وغداً وبعد غد 13 نيسان.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى