2013 ــ عام الانعطافات الكبرى I «ربيع إيران».. من كل الجهات ( نصري الصايغ)

 

 نصري الصايغ

لحظة الاندلاع في تونس، أطلقت عاصفة تغيير لم تهدأ بعد. تقريباً، كل ما كان قبل البوعزيزي، إما لم يعد قائماً، أو أنه ارتج، أو أنه خائف. بعد اللحظة التونسية، انهار النظام الرسمي العربي، واهتزت مؤسساته. ما كان صالحا للاستعمال برطانة سياسية دامت أربعين عاماً، صار بائتا ومرفوضا، وتخطته قدرة الشعوب على الإمساك بزمام أمورها. ما قيل عن الاستثناء العربي والعجز العربي والأبد العربي، تداعى أمام الزلزال الكبير وارتداداته المتوالية. لقد خرج الشعب العربي، كما هو، في بلاد وازنة، كما هو، بلا هندسة مسبقة، بلا عقائد قبلية، بلا تنظيمات وحتى بلا أحزاب، واستطاع بزحفه الاعجازي، غير المسبوق في التاريخ الحديث، أن يقتلع الطغيان، ويفتح الطريق إلى التغيير.. وما زلنا في أول الطريق.
لقد انزاح بالقوة، السد المنيع الذي أقامه الاستبداد، طول أربعة قرون. انفتح المسار على الحرية والديموقراطية والعدالة والمشاركة. اكتظت الميادين بالعابرين إلى المستقبل، بعدما اقتلعوا أبواب الكهوف التي رسم عتمتها نظام رسمي عربي قمعي ومتخلف.
حدث هذا في المغرب العربي ثم على ضفتي النيل واكتسح سوريا وجعل الخليج يقود «الثورة المضادة»، بالتي هي أسوأ، لمنع الزلزال من ان يشاطئ ممالك وإمارات، تعيش على الأمن المستعار، والاستباحة التامة لموارد البلاد والعباد.
هذا الذي سمي عن جدارة في البداية «الربيع العربي»، حاولت إيران أن تقيده في خانة «الربيع الإسلامي»، أو «الصحوة الإسلامية»، وكان هذا «الربيع» قد طرق أبوابها من خلال الانتخابات التي تم فيها التجديد لأحمدي نجاد، عبر صناديق اقتراع مشكوك بعدالة أرقامها، وأبان الزام المرشح الرئاسي بالإقامة الجبرية… ذلك «الربيع»، كان أيضاً من داخل إيران، ولو كانت القيادة تشك بميوله «الغربية»، التي لم تثبت صحتها، خاصة أن معظم التيار الإصلاحي، هو من قادة النظام السابقين.
وقوف السلطة الحازم آنذاك، اجّل الحراك واستبدل مواقعه. فبدلا من أن يكون التغيير من تحت، وملزما للسلطة انطلاقاً من سيادة الشعب، جاء هذا التغيير من فوق. لقد كان النظام جاهزاً هذه المرة، لم يعد في وارد المواجهة للإرادة الشعبية المطالبة بالتغيير، فقُبلت، بلا تردد، نتائج انتخابات ديموقراطية (بالمناسبة، لا شبيه لها في أي نظام عربي) فاز بها «الاصلاحيون الجدد» المتصالحون في العمق، مع النظام وآلياته ومبادئه، والمتطلعون إلى المشكلات وكيفية مواجهتها، بطريقة أخرى: الانفتاح لغة ومضمونا ومواقف، مع التزام بالقواعد والثوابت، أقله حتى الآن.
هذا أول التغيير. جاء تغييراً ناضجاً، بعد تجربة ثلاثة وثلاثين عاماً، من الالتزام المتشدد بالمبادئ والسياسات والمواجهات. كسبت إيران في تجاربها السابقة خبرة الثبات وكيفية دفع الأثمان وتكريس الأرباح كذلك. خرج روحاني إلى العالم، بجبَّة مدنية، وبعباءة من طراز حداثي، وعمامة أقرب ما تكون إلى قبعة ذات أرجحية دينية. تحدث في السياسة بلغة أخرى. قارب الموضوعات بأسلوب ساحر. خاض المفاوضات بذكاء لافت. عبر عن إيران بطريقة لاقت قبولاً واستحساناً، وعُقدت رهانات دولية على ذلك، باتت إرهاصاتها الأولى، بالتوقيع على الاتفاق النووي، بعد جمود دام سنوات.
وبسرعة، كدّست إيران أرباحاً في انفتاحها، أضيفت إلى أرباحها في زمن المواجهات الكبرى. إيران اليوم، عضو فاعل في النظام العالمي. كانت تعامل كعاصية عليه وخارجة منه. إيران لاقت التغير الأميركي في منتصف الطريق. فبات الشعار «الحياة للطريق التي تلغي العداء مع أميركا». الشيطان الأكبر لم يعد كائناً سياسياً. صار اسمه الولايات المتحدة الأميركية، بحسناتها وسيئاتها. واقعية نموذجية وصراحة لينة في التعامل والتنازل وحصد الجوائز.
إن من كان ضد إيران يسعى لمد الجسور معها، دول الخليج أولاً، باستثناء العناد السعودي. لها حصة في العراق وأخرى في سوريا وثالثة في لبنان، وليست مع تركيا على عداء، وتستعد لشراكة كبرى مع روسيا.
ربيع إيران، لم يكن من تحت. ربما ليس أيضاً من فوق، بل هو من كل الجهات. لكنه، ليس ربيعاً إسلامياً، ومحاولتها إلصاق الإسلامية بالربيع العربي شاهد عليها وليس معها. فالإسلاميون ليسوا واحداً. لا في الدين ولا في الممارسة ولا في الاجتهاد ولا في «الجهاد».
«ربيع إيران» جاءها أيضاً من الخارج، بعد ممانعتين مزمنين: ممانعة إيرانية وممانعة عربية. العالم حولها تغير، الإقليم يتبدل، الشعوب تتحرك، فكانت هذه الانعطافة الكبرى.
لم تخسر إيران نفسها وقد يربح معها آخرون.
هذا زمن آخر، ولد في تونس، ويستكمل مسيرته في كثير من البلاد، فلا عودة إلى جحيم الاستبداد والقمع والاستنفاع.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى