2016 عام محاكمة الإبداع في مصر
يبدأ العد التنازلي لاستقبال عام جديد، من دون أن نودّع بـ»حزم» الإرث الجاثم الذي حمله 2016 بوصفه «عام محاكمة الإبداع في مصر». قبل شهر، رفض البرلمان المصريّ مشروعي قانون يطالبان بإلغاء عقوبة السجن في جرائم النشر تحت بند «خدش الحياء العام». فيما ننتظر مطلع الشهر المقبل – صبيحة اليوم الأوّل من العام الجديد – حكم الطعن في قضية الروائي الشاب أحمد ناجي، بعدما أوقفت محكمة النقض المصرية أخيراً، حكماً بسجنه عامين صدر في شباط (فبراير) الماضي، على خلفية نشر فصل «خادش للحياء» من روايته «استخدام الحياة» في جريدة «أخبار الأدب» الأسبوعية (تصدر عن مؤسسة صحافية رسمية «أخبار اليوم»).
ثلاثمئة يوم وليلة في السجن، أمضاها ناجي، وأخرى خارج السجن، تداولتها الأوساط الثقافية تداعياً لحبس الإبداع والخيال في مصر. استقبلنا العام الذي يوشك على الرحيل بحكم تاريخي قضى بحبس كاتب لأنه استخدم لفظة دون أخرى، بعدما وقّعت النيابة لمدة عام كامل محاضر استجواب على أحداث خيالية على أنها «اعترافات» الكاتب بشرب الخمر وتناول المخدرات، ونصبت كمائن لترصّد «الكاتب المتّهم».
وقبيل أن تُلملم السنة أوراقها، انتفض نائب مصري في الذكرى الـ105 لميلاد نجيب محفوظ، بأن صاحب نوبل «خادش للحياء»، وكانت محاكمته «واجبة» لو كان على قيد الحياة. محاولة اغتيال ثانية، اعتبرت أصوات تصريح النائب الأهوج، مدافعة عن رمز مصري ثقافي كبير بحجم نجيب محفوظ. وكان صاحب الثلاثية قد تعرّض لمحاولة اغتيال عام 1994 بطعنة من شاب غذّته تيّارات دينية متشددة. بينما بدت الانتفاضة المتجدّدة لإرث نجيب وأدبه ومكانته ضد «الاغتيال الرمزي» عبثاً في وجود كاتب في الوقت المعاصر يقبع بالفعل في السجن ويُجيب من يسأله عن جريمته بأنها «خدش حياء»، وأن المجني عليه هو «الأخلاق العامة»، كما جاء في ديباجة محكمة الجُنح في حكمها التاريخي. وها هو عام جديد على الأبواب، يُتَوَقّع أن يشهد جلسات محاكمة وزير الثقافة المصري السابق، الناقد جابر عصفور، وثلاثة صحافيين، بتهمة «ازدراء النيابة العامة».
التهمة وجهها «المجلس الأعلى المصري للقضاء»، استناداً إلى حديث عصفور، في ندوة نظمها المجلس الأعلى المصري للثقافة في حضور الوزير حلمي النمنم، عن عدم رضاه عن مرافعة النيابة في قضية أحمد ناجي. نقل الصحافيان نضال ممدوح ومحمد حمدي كلام عصفور ونشراه في جريدة «البوابة نيوز»، فطاولتهما التهمة نفسها ومعهما رئيس التحرير التنفيذي للجريدة محمد الباز، وتقررت إحالتهم إلى محكمة الجنايات، بعد أن رفضت محكمة الجنح نظر القضية «لعدم الاختصاص».
وزارة ثقافة الظل
تحمّلت وزارة الثقافة المصرية الجزء الباقي من «انهيار» المشهد، بعدما استشعرت الأوساط الثقافية المصرية خذلاناً من وزير الثقافة حلمي النمنم، وكانت تعتبره واحداً من أهلها، بحكم كونه في الأصل محرراً ثقافياً، في واحدة من أعرق المؤسسات الصحافية العربية، وهي «دار الهلال». تولى النمنم منصبه الرسمي على خلفية عمله الصحافيّ والكتابة البحثية في المجلات والكتب النقدية. آثر النمنم منذ بدء قضية الكاتب أحمد ناجي، ومن قبله الباحث إسلام البحيري والشاعرة فاطمة نعوت باتهامهما في قضيتين منفصلتين بـ»ازدراء الدين الإسلامي»، اتخاذ موقف مهادن إزاء اعتداءات سافرة على حرية التعبير في مصر. وقف في مؤتمر تضامنيّ في نقابة الصحافيين المصرية على إثر القضيتين، يُدين «مؤسسة حكومية» لنشرها «كلاماً إباحياً ماجناً»، وهو هنا يقصد «أخبار اليوم» التي تصدر «أخبار الأدب». وفي وقت لاحق من العام، مرّ كالشهاب، تصريح لحلمي النمنم في وجه أصوات خافتة طالبت باستقالته، بأنه يذود عن أدباء مصر، ويُخفي في مكتبه بلاغات ضد كتّاب وأعمال أدبيّة وكتب. وبإسقاط موقف وزارة الثقافة من قضية الحريّات، بدت وزارة النمنم الظل لقرارات الحكومة المصرية، لا هي مبادِرة أو حاسمة في مواقفها. خيّبت آمال كثير من أدباء مصر ومثقفيها وطموحاتهم في إنجاز ملموس أو تأثير إيجابي في الحياة الثقافية في مصر.
سجون ومكتبات
مع بداية العام أيضاً، نشرت الجريدة الرسمية قراراً جمهورياً يقضي بتخصيص مساحة كبيرة من أرض خلاء في نطاق محافظة الجيزة، جنوب غربي القاهرة، لإنشاء سجن كبير. وكانت المفارقة أن يختتم العام بأمر إغلاق سلسلة «مكتبة الكرامة» في محافظات مصرية لصاحبها الناشط الحقوقي جمال عيد. لم يكن التضييق على منافذ الحياة الثقافية في مصر، لم يكن هذه المرة بمبادرات شخصية أو استنفارات من قوة بعينها. يمكن اعتبار عام 2016 أكثر الأعوام التي شهدت حضوراً «مؤرِّقاً» للبرلمان المصري بوصفه جهة تشريع وتداول وإصدار القوانين والإخطارات بالأمر القاطع ومد ذراع قوية لتكبيل الثقافة المصرية. كما شهد 2016 في موازاة ذلك، استنفاراً حكومياً لغلق مكتبة أو مؤسسة ثقافية، ومن ذلك مثلاً الإغلاق المفاجئ وغير المسبّب لمسرح «تاون هاوس»، في وسط القاهرة. وفي الوقت ذاته، نجد مشاريع قوانين لتنظيم العمل الأهلي في مصر يُبتّ فيها داخل البرلمان بين عشية وضحاها، فيما لا إجابة عن سؤال: من قرأَ وبحثَ وتحقَّق وطرحَ للتداول والتصويت والاختبار؟
2016 هو كذلك عام اقتحام نقابة الصحافيين المصرية من جانب قوّات الأمن، في سابقة تاريخية، واتهام نقيب الصحافيين المصريين يحيى قلاش واثنين من مجلس إدارة النقابة بـ»إيواء متهمين بخرق قانون التظاهر». من غير المتوقع أن تنتهي أزمة محاكمة الإبداع ومُساءلة الخيال بانتهاء القضية وغلق الملفّات. خروج ناجي أو إعادة محاكمته وحصوله على البراءة المرجوّة لن يغسل العار الذي لحق بالجميع، هكذا تنقل أجواء الترقّب التي خيّمت على الأدباء المصريين لشهور. الذعر الحقيقي ليس في انتفاضة مواطن قد يكون مدسوساً أو مُستخدَماً، لكن في العقلية التي تُدير التشريعات وتسن القوانين وتقضي بكل هذه السذاجة والارتعاش والتهافت بحجة حماية الأخلاق العامة. الذعر الحقيقي الذي يُسائل المثقف المصري نفسه به اليوم بعد عام مضى، عن المعنى الحرفيّ لما يكتب، وعن الرقيب الذاتي الذي سيبدأ يُسلّط سوطه على الكتابة في صورة أكبر من المعتاد، عن حدود حريته في الكتابة. المفردات التي بات على الأدب أن يوجّه نظره لاستخدام بعضها و «الهروب» من استخدام بعضها الآخر، لن تكون بعد اليوم بسبب وازع جمالي، لكن لكي لا تزُجّ بصاحبها في السجن.
صحيفة الحياة اللندنية