50 عاماً على انتحار مارلين مونرو.. حياة استقطبت قمم عصرها….ولدت قصة الصورة الفوتوغرافية التي تعتبر واحدةً من أشهر لقطات القرن العشرين، في منتصف ليل 15 أيلول 1954، في نيويورك. ففي ما اعتبرته أستاذة دراسات التاريخ والجندر في أميركا لويس بانر “مخاطرة هدفها الترويج”، وقفت مارلين مونرو فوق نافذة أرضية لقطار الأنفاق، أمام حشدٍ من مئة مصوّر فوتوغرافي وألف وخمسمئة متفرّج ذكر، لتضحك برفقة فستانها الأبيض، الذي يطيّره هواء الأنفاق. كانت حينها تصوّر لقطة من فيلمها “هرشة السنة السابعة” (1955)، أما المخاطرة فكانت باستعراض الذات، الكشف. هي اعتبرتها لقطة مرحة، أما المخرج بيلي وايلدر، الذي أعاد تصوير المشهد 14 مرة، فقد قاد التكرار ليضحي مصدراً للإثارة الجنسية. تقول إنها بدأت بالضحك، لكن ارتفاع “هدير” الرجال كلما أطار الهواء فستانها أفهمها طبيعة الموقف، فتفاعلت معه. تسخر من النتيجة، وتضحك من الفكرة. لكن وقعها الفعلي على حياتها كان الطلاق. فزوجها جو ديماجيو، لاعب البايسبول الأثير، لم يطق أسباب التكرار. عبّر عن غضبه، ورحل. ولم يمرّ أكثر من أسبوعين قبل إعلان القرار بالطلاق.
أحبت جو ديماجيو، هي. وعندما انتحرت في العام 1962، كان ديماجيو الشخص الذي نظّم مراسيم الدفن، وجعلها حميمة لا يتعدى حضورها الـ 31 شخصاً. وكان هو الشخص الذي حرص على أن تصل الورود الحمراء إلى مرقدها في كاليفورنيا، كل يوم، لعشرين سنة تلت الرحيل.
منذ خمسين عاماً، انتحرت مارلين مونرو، وهي لم تعش أكثر من 36 عاماً.
مارلين، التي تحيي مهرجانات العالم السينمائية ذكراها الخمسين، والتي تعود قصتها بزخم إلى صحافة العالم وتحليلاتها ومعلوماتها، والتي بدّلت من الأسماء ما انتهى أخيراً إلى ملء فراغ اسمها الأساسي، هي سادس أسطورة سينمائية أميركية في تاريخ الإنتاج، بحسب معهد السينما الأميركي، وهي أيضاً أشهر امرأة في العالم.
“ليثبتوا أنفسهم”
كثيراً ما يُسأل عن سبب شهرتها، ونادراً ما يبذل السائل جهداً للمعرفة. فالسبب يُردّ غالباً إلى جمالها، دلالها، كونها رمزاً جنسياً لمرحلةٍ وخارجها، لون شعرها، الشامة على خدها، … وبذلك، تحضر في المعادلة مكوّنات متوفرة لكثيرات، وتسقط خصوصية تعامل مارلين مع الحياة، التي جعلتها أرض التناقضات الخصبة.
هي ولدت بلا اسم، لأنها ولدت بلا أب واضح الهوية، ولأم تعاني من انعدام السوية النفسية، انسحبت معاناتها على الطفلة، لجهة تعريضها لحالات الانصهار والانفصال المتكررة، حتى باتت طفولتها تتأرجح بين المؤقت والمؤلم. ومع ذلك، فقد أتى “مونرو” من الإسم الأوسط للأم. وهي تحبها، حتى ولو وجدت نفسها طفلةً في كيس سميك تسرقها أمها بالعنف والصياح، من بيتٍ بالتبني بدأت تولد فيه ملامح الاستقرار، إلى بيت آخر يحلّق في غير المتوقع. من بيت إلى آخر، ومن اعتداء جنسي إلى آخر، ومن حبيب إلى آخر، ومن حلم إلى آخر، ومن اسم إلى آخر، … ذلك كله موجود داخل مارلين، ويصنع التوازن الذي تنتج عنه صورتها. وهي التي تمكنت من إعادة إنتاج صورتها، مرة تلو الأخرى، حتى صنعت الممتنع المشتهى، من قلب التناقض، حتى حُفظ لها موقعٌ في قصة العالم.
التناقض في مارلين هو مولّد طاقة تشدّ خارج المألوف والمعتاد، باتجاه الأسطرة. وهو يسكن كافة نواحيها: تمتلك الوجه الأجمل والجسد الأكثر إثارة، لكنه يغلف صحّة مريضة جداً، تغزوها الآلام. وهي الشهيرة بالقول اللاذع وبالموقف المواجِه، لكنها الشهيرة أيضاً برعب هائل من الوقوف على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، جلب لها النقد اللاذع من أبرز المخرجين والفنانين، حتى وُصمت بهذا العار. وهي التي اشتهاها جميع الرجال، وكرّست الحضور لاجتذاب هذه الإثارة، وتزوجت ثلاث مرات، آخرها من الكاتب آرثر ميلر، لكنها كانت تميل إلى النساء، مثليّةٌ تخرجها اليوم الأوراق المخفية إلى العلن، بالأسماء، وبالصراع النفسي الذي عاشته صاحبة الميل تجاهه. ومارلين التي تعتبر الأداة – الألعوبة بأيدي الرجال، هي المبادرة إلى مهاجمة آرنست همنغواي على كيفية تقديمه لأبطاله، “هؤلاء الرجال الضخام الصلبون هم دليل مرضٍ مشتدّ! هم ليسوا حتى على هذا القدر من الصلابة! إنهم يخافون من الطيبة واللطافة والجمال. إنهم يحتاجون دوماً إلى قتل شيء ما، ليثبتوا أنفسهم”.
مواجهة المحافظة بالعري
عندما خرجت مارلين مونرو على المجتمع كاشفةً الاعتداء الجنسي الذي تعرّضت له، لم تكن فتاةً جميلة وغبية، وإنما كانت رائدة في جرأة الاعتراف العلني ووضع المجتمع أمام مسؤولياته، في وقت لم يكن يُعرف فيه أن الاعتداءات الجنسية منتشرة، تحديداً بسبب الصمت الناتج عن الخزي. فقد سادت حينها (والآن) قناعةٌ تفيد بأن المرأة هي سبب الاعتداء، ولو كانت طفلة. مارلين كانت من أولى النساء، وتحديداً أولى الشهيرات، التي خرجت لتخبر عن الجريمة، وتجرّدها من مبرراتها الاجتماعية. وهي معتادة على المواجهة، إذ سبق لها، عند بدء بزوغ نجمها، أن تعرضت لتهديد مسيرتها الفنية الحديثة الولادة، بصورٍ عارية التقطها لها مصوّر، أيام الفقر والبحث عن مدخل إلى الشهرة، في مجتمع عنيف المحافظة. اهتز البنيان الهوليوودي الذي أحاط بالعارضة المنتقلة حديثاً إلى التمثيل، فما كان منها إلا أن قررت المواجهة: أخرجت النقاش برويّة إلى الملأ، وبررت الصور بالحاجة إلى المال، وكانت حينها حاجة فعلية، وتعاملت مع الموضوع بلا مبالاة، فخففت من وطأة الصدمة على المجتمع، لا بل امتصتها وجعلتها لحظة تفهّم. وكثيراً ما حاز أداؤها، الذي صقلته في أشدّ مدارس التمثيل حداثةً في عصرها، على إعجاب النقاد، في مقابل السلبية التي استقبلت بها طلّتها إثر العرض. كأن ترتدي فستاناً ضيقاً يفصّل خطوط جسمها، ذهبي اللون، فتقول عنها نجمةٌ كجوان كراوفورد إنها “مبتذلة، ولا تتصرف على نحو يبشّر بأنها ستصبح ممثلة، أو سيدة”.
المحافظة في مجتمع يتبرأ من الجنس، هي التي تحدّتها مارلين، بأسلحة الحرية. فقد جمعت شخصيتها ما بين صورتين مطلوبتين من المرأة، حتى يومنا هذا: براءة العذراء، وإثارة المجدلية. في المقابل، سعى القيمون على الرأي العام للتبرؤ من تلك الحرية، حتى آخر رمق لها.. إذ أدان الموسيقي العالمي ألتون جون، في الأغنية التي صاغها حولها عند رحيلها، تحت عنوان “وداعاً نورما جين” (اسمها الأصلي)، ذاك الاختزال لها، مغنيّاً: “حتى عندما توفيت، استمرت الصحافة في مطاردتك / وكل ما تمكّنت الجرائد من قوله أمام خبر موتك: وُجدت مارلين عارية”.
“ولم تكن تدرك ذلك”
لا يأتي التجرؤ على المحافظة خارج سياق عام كان لمارلين موقف فيه، وقد حاول المجتمع الاستهلاكي حصرها بصورة “الجميلة”، بحيث يسقط عنها كل مضمون، لتضحي أسهل للهضم. وقد تمرّدت مارلين فعلياً، ومن دون مواجهة، على ذلك الحصر، ويمكن لهذه الإجابة التي اختتمت بها مقابلة صحافية أن تكون خير دليل على ذلك. فقالت للصحافي الذي سعى للتذاكي عليها، كمفكّر يحاور “المثيرة”: “ما أودّ فعلياً قوله هو أن العالم يحتاج إلى إحساس حقيقي بالإلفة. الجميع: النجوم، العمّال، الزنوج، اليهود، العرب. كلنا أخوة. وأرجوك، لا تسعى لصنع نكتة من كلامي. أقفل الحوار على ما أؤمن به”.
اتخذت مارلين مواقف حادّة من المخاوف والهواجس المطروحة في عصرها، التي تعرّف بها الباحثة لويس بانر في مقالتها في “ذى غاريان” على النحو التالي: الحرب الباردة وسلاحها النووي، التمييز العنصري، الهلع من الشيوعية الفكرية والمثلية الجنسية كخطرين يتهددان المجتمع بالانهيار.
لقد أعلنت مارلين صراحةً موقفها الأخلاقي الرافض للسلاح النووي، تماماً كما أعلنت اصطفافها الصريح إلى جانب الكتّاب والفنانين المتهمين بالشيوعية في مطلع ستينيات أميركا، كما أوضحت مراراً أنها من المطالبين بالحقوق المتساوية لكافة فئات المجتمع، وتحديداً العمّال والأشخاص السود.
وتحضر في هذا السياق قصة مارلين مع أسطورة الجاز إيلا فيتزجيرالد، التي روتها الأخيرة بعد رحيل مارلين، في حوار صحافي. تقول: “أنا مدينة فعلياً لمارلين مونرو… فقد كان الفضل لها في غنائي في “موكامبو”، وهو من أشهر نوادي الليل في الخمسينيات. إذ اتصلت شخصياً بصاحب النادي، وقالت له إنها تريد منه حجزي فوراً، وإذا حجزني فهي ستشغل الطاولة الأمامية الأقرب إلى الخشبة، في كل ليلة. قالت له – وذلك حقيقي، نظراً لنجومية مارلين الخارقة ـ أن الصحافة ستصاب بهوس مشهدٍ شبيه. وافق صاحب النادي، وكانت مارلين حاضرة، في الطاولة الأمامية، في كل ليلة. وفعلياً، اهتاجت الصحافة. من بعدها، لم أضطر يوماً للعب موسيقاي في ناد مهمل للجاز. كانت امرأة استثنائية ـ متقدمة قليلاً على عصرها. ولم تكن تدرك ذلك”.
“الفرويدية هي ديني”
عندما سئلت مارلين عن إيمانها، صرّحت بأن “الفرويدية هي ديني”. ولقد سعت للتقرّب من محيط سيغموند فرويد، وبحثت في تلامذته، حتى تمكنت من الوصول إلى ابنته، المحللة النفسية آنا فرويد، وخضعت لأسبوع من الجلسات المكثّفة معها.. علماً أن مارلين اختارت التحليل النفسي الذي يخوض في جذور الحكاية، في زمن صعود “السلوكية” الذي يقوم على علاج الظواهر التي تؤرق الإنسان. وهو اختيارٌ يدلّ على نمطها في التفكير، تماماً كما دلّ موتها على صعوبة استمرار نموذج كهذا، في المجتمع الحديث.
انتحرت مارلين مونرو بجرعة زائدة من دواء كان يستخدم كمهدئ للأعصاب ومعالج للاكتئاب في زمانها، اسمه “باربيتوراس”. مارلين وجودي غارلاند انتحرتا بواسطته. وهي التي تعتبر الحياة نشاطاً والموت هدوءاً، قصدته بأدوات الهدوء. وعلى الرغم من شدّة اختلاف الروايات حول وفاتها، وهي حال ترافق كل رمزٍ خالد يقوى الموت عليه أو يختار الموت على الحياة، فقد أقدمت مارلين على إنهاء قصة حياة أشركت فيها قمم عصرها، من سياسة آل كينيدي إلى “بوب” أندي وارهول، ومن أدب ميلر إلى رياضة ديماجيو، … وإذا حاول المجتمع التخفّف من وطأة انتحار أيقونة الحياة فيه، مفترضاً إما جريمة سياسية أو خطأ في تناول الدواء، فإن بيع الفستان الذي ارتدته ليل 15 أيلول 1954 بالمزاد العلني، بقيمة 4.6 ملايين دولار، يؤكد استمرار الحالة. حالة اشتهاء الانتماء إلى صورةٍ تخبر عن الحرية وتمارسها، تختبئ وراء جسدها وتجعله متراسها، تتسلح بخفة الظل لتخبر عن الحقوق المتساوية، … وهو اشتهاء تحدّه الخشية من مواجهةٍ يمكن أن تنتهي بالموت.
في الأول من حزيران 1926، ولدت نورما جين. وفي الخامس من آب 1962، رحلت مارلين. وبين التاريخين، وبين الإسمين، تستلقي أسطورة تخبر عن قلق المرأة الساعية إلى الإلفة في المجتمع الحديث.