قراءة “بانورامية” لرواية “أيام بورمية”
*كان “بوبوكين” قاضي الصلح الشعبي لمدينة “كيوكتادا” في بورما، جالساً في شرفته …دون أن يرمش، وكصنم كبير من الخزف، حدق “بوبوكين” في أشعة الشمس الشعواء، فقد كان رجلا في عقده الخامس بدينا جدا، فلسنوات طوال لم يستطع أن ينهض عن كرسيه بدون مساعدة، الا اته كان وسيما وحتى جميلا رغم بدانته الرجولية…يعلك “التنبول” باستمرار…وهو يعتقد انه حتى بعد مماته، فسيستمر نجاحه، وفقا للاعتقاد البوذي، فاولئك الذين مارسوا الشر في حياتهم، سوف يتجسدون في حياتهم الاخرى على شكل فئران او ضفادع او بعض الحيوانات الدنيئة. وقد كان “بوبوكين” بوذيا مؤمنا، فكان حريصا على تفادي هذا المصير. (19-23)
*أيام بورمية، هي رواية رائعة، انه هجوم هش، شرس، وتقريبا صاخب على الأنجلو-الهنود…
*أيام بورمية، هي رواية رائعة، انه هجوم هش، شرس، وتقريبا صاخب على الأنجلو-الهنود…ومن الواضح ان المؤلف يحب بورما، ورغم انه يذهب الى ابعاد رائعة في وصف رذائل البورمية. والمناخ المروع، لكنه يحبها، فلا يمكن لشيء ان يخفف صعوبتها عليه…لقد احببت الرواية، واوصي بها الى اي شخص يستمتع بفيض من السخط والعقاب اللاذع والاثارة والسخرية، كما بوصف المشاهد التصويرية الآخاذة المعبرة.
*لم تكن بالقوة اللازمة لنقد الامبريالية، كما كان ينبغي أن تكون، لأنها أقل في انتقاد الامبريالية عن استكشاف الذنب الخاص، والشعور بالوحدة، وفقدان الهوية.
*على الرغم من كل المشاعر العنصرية في الرواية، والتي اعتنقها الانجليز في بورما، والقساوة في طرحها، والنزاعات الشخصية وتمرد الشخصيات على من هم أقل منزلة وقوة، الا ان القارىء سيشعر بهواء الهند العذب وأشعة شمسها البراقة الحامية، وسيشتم رائحتها الزكية-المختلطة بعبير جوز الهند، والكركم والثوم، وسيسير في طبيعتها الخلابة ويحوم بين ثنايا تفاصيلها.
” يا عزيزي الطبيب، كيف يمكنك أن تصدق أننا في هذا البلد لأي غرض آخر غير السرقة؟!
*”ياله من هراء يا عزيزي الطبيب، نحن نعلم الشباب شرب الويسكي ولعب كرة القدم، وأنا اعترف، ولكن هذا ثمن بخس، انظروا الى مدارسنا-مصانع للموظفين الزهداء. حيث لم نقم بتدريس تجارة يدوية واحدة للهنود. ولن نجرؤ على ذلك. سنخاف من المنافسة في الصناعة. كما أننا سحقنا الصناعات المختلفة. أين النساجين الهنود الان؟ في الأربعيات كانوا يبنون السفن البحرية قي الهند، ويبحرون بها ايضا. والآن لا يمكنهم بناء قارب صيد صالح للابحار. وفي القرن الثامن عشر قام الهنود بصنع البنادق التي كانت تصل الى المعيار الاوروبي. والآن وبعد ان قضينا في الهند مائة وخمسين عاما، لا يمكنك حتى أن تصنع خرطوشة نحاس في القارة بأكملها…سأتحدث عن قضية سيام”.(78-79)
*قال فلوري (بطل الرواية الانجليزي): ” يا عزيزي الطبيب، كيف يمكنك أن تصدق أننا في هذا البلد لأي غرض آخر غير السرقة؟ انه امر في غاية البساطة. يكمل المسؤول البورماني بينما يمر رجل الأعمال بجيوبه. هل تفترض ان شركتي، على سبيل المثال، كان بامكانها الحصول على عقود الأخشاب لو لم تكن هذه البلاد بأيدي البريطانيين؟ او حتى شركات الأخشاب الاخرى، او شركات النفط، او عمال المناجم والمزارعين والتجار؟ كيف يمكن لتجار الأرز أن يتلاعبوا بالفلاح البائس لو لم تكن الحكومة وراء ذلك؟ فالامبرطورية البريطانية هي مجرد وسيلة لاعطاء الاحتكارات التجارية للانجليز، او بالأحرى لعصابات اليهود والاسكتلنديين”.(78)
*هناك دوما شيء منيع في العقل الاوروبي، مؤامرة وراء مؤامرة، مكيدة داخل مكيدة، الى جانب ذلك، البقاء خارج المشاجرات “بين المحليين”، فهذه هي احدى التعاليم العشره: “البوتاساهيب”! (87)
*لقد جعلت نفسي واضحا بالنسبة لك في كل شيء، هل حصلت على صورة الحياة التي نعيشها هنا؟ الأجانب، والعزلة، والكآبة، الأشجار والزهور الأجنبية، والمناظر الطبيعية الأجنبية، والوجوه الأجنبية، كل شيء اجنبي وكأنه من كوكب آخر…ومع ذلك اقول لك أنه يمكن أن يصبح جنة، اذا لم يكن المرء وحيدا!(293)
*طول الوقت كان المطر يهطل، بعد اليوم التالي لعودة “فلوري” الى المخيم، حيث هطل المطر لثمان وثلاثين ساعة متواصلة، وفي بعض الأحيان كان يتباطىء في وتيرة المطر الانجليزي، واحيانا يتدفق مثل الطوفان، فيعتقد المرء أن المحيط قد امتص في السحب…ثم بدأ الطين بالتصدع والتبخر، وبرك العرق من الحرارة الشائكة انتشرت في جميع انحاء جسم المرء، وظهرت اسراب من الخنافس الطائرة من شرانقها بمجرد بدء المطر، ثم عم وباء من المخلوقات القبيحة الصغيرة المعروفة باسم حشرة البق النتنة، التي غزت المنازل بأعداد لا تصدق، وانتشرت على طاولات الطعام، وجعلت طعام المرء غير نافع للأكل.(419)
“ألم اقل لك شيئا عن الحياة التي نعيشها هنا؟ هذا النوع من الموت الرهيب في الحياة!
*حدقت اليزابيث عبر الممر في وجهه، وقد جعلها اشمئزازها مريضة جسديا…فكرة أنها كانت محبة لهذا المخلوق الرمادي الوجهي، جعل عظامها ترتعد…ولكن الأسوأ من اي شيء، كان مرأى وجهه المرعب، الذي كان شبحيا، جامدا وكهلا، وقد كرهته الآن من اجل وحمته، لم تكن تعرف حتى هذه اللحظة، كم كان ذلك امر شائن، كم كان أمرا لايغتفر. (436)
*” ألم اقل لك شيئا عن الحياة التي نعيشها هنا؟ هذا النوع من الموت الرهيب في الحياة! الانحلال، والشعور بالوحدة، والشفقة على النفس…للمرة الأخيرة. تذكري أن من المهم أن تجدي شخصا واحدا في العالم ليحبك…”(441).
*كان هناك ثقب نظيف في قميص فلوري، ليس أكبر من ذلك الذي يصنع بواسطة قلم الرصاص عندما يمر على ورق النشاف. كان من الواضح أنه ميت تماما. وبصعوبة كبيرة تمكن كوسالا (الخادم المخلص الذي ورث اربعمائة روبية من وصية فلوري)، تمكن من سحبه على السرير.(447)
*ومع الموت، تلاشت الوحمة على الفور، بحيث لم تكن أكثر من لطخة رمادية خافتة… “ادفن الكلب على الفور…ولن اكتب على شاهد قبره أنه اتتحر”(448)
*…وبمجرد أن صار ميتا، تم ضمان تدمير الطبيب البورمي صديقه الحميم “فراسواني”، وتم تشويه سمعته وبأنه مجرد وغد، غير جدير بالثقة(450)
*آخر فقرة:
…اما اليزابيث (حبيبته المتمردة التي خذلته) فقد نضجت بسرعة مدهشة، وقد توضحت صلابتها المحتومة بالطريقة التي انتهت لحما ودما. فخدمها يعيشون في حالة رعب منها، على الرغم من انها لا تتحدث البورمية. كما أن لها معرفة مفصلة بالقائمة المدنية، وتقيم حفلات عشاء ساحرة، وتعرف كيف تضع زوجات المسؤولين الثانويين في اماكانهم … باختصار… انها تملأ بنجاح المركز الذي صممته لها الطبيعة منذ البداية، وهو انها من “البوراميمساهيب”!(455)
*الخص عادة الروايات بهذه الطريقة الموجزة التي تستند لسرد اهم الفقرات والجمل (من وجهة نظري النقدية)، ثم أذهب لتلخيص منهجية واسلوب الكاتب بشكل لافت، وباعتقادي ان هذا ملائم للكثير من القراء المثقفين المستعجلين (في عصر الانترنت الرقمي) واللذين لا يرغبون ربما بقضاء الساعات الطويلة لقراءة رواية ما، ولكنهم يهتمون بالالمام بالخطوط الرئيسية وتصفح احداثها الجوهرية.
هامش وصفي منقول عن الانترنت:
“أيام بورما” روايته الأولى تفضح بعض أسراره. جورج أورويل شرطياً في بورما ولكن … ضد الاستعمار
تفضح رواية جورج اورويل الأولى “أيام بورما” أسراراً من حياة هذا الكاتب الانكليزي الكبير صاحب رواية “1984” وتلقي ضوءاً على مواقفه السلبية من الاستعمار. وكان هو عمل شرطياً في مطلع حياته في الهند عندما كانت مستعمرة انكليزية. وصدور الرواية الأولى هذه حديثاً بالفرنسية في باريس فتح باباً جديداً على عالم هذا الروائي الكبير.
صدرت أخيراً في فرنسا الترجمة الفرنسية للرواية الأولى التي كتبها جورج أورويل، الروائي الإنكليزي صاحب الرواية الشهيرة “1984”. وكان الكاتب كتب روايته الأولى هذه “أيام بورما” في بداية الثلاثينات، وسرد فيها بعضاً من وقائع الفترة التي قضاها في هذه المستعمرة الإنكليزية، حتى أن الناشر دفعه قبل النشر لتغيير بعض الأسماء الحقيقية التي وردت فيها.
جورج أورويل، واسمه الحقيقي ايريك بلير، ولد في البنغال في الهند عام 1903 لأسرة إنكليزية استوطنت الهند. كان والده موظفاً في هيئة مكافحة الأفيون بينما كانت عائلة والدته تعمل بالتجارة في بورما… قدم إلى إنكلترا مع والدته وأخته في بداية حياته، واستقروا في ايتون. خلال سنوات دراسته في تلك المدينة، تكون لديه شعور بالنفور نحو النظام الطبقي البريطاني، وهو المنتمي إلى عائلة برجوازية فقدت مع الزمن ميزاتها. ففي المدرسة الداخلية الراقية التي كان يتردد إليها، بدأت معاناته، وتولد لديه وللمرة الأولى إحساس باللامساواة والظلم. وخضع فيها ومنذ صغره إلى تهكم واضطهاد زملائه بسبب أصوله العائلية المتواضعة. وفي ما بعد، في سن التاسعة عشرة حين غادر ليعمل في صفوف البوليس الإمبراطوري البريطاني في الهند. وعلى مدى خمس سنوات، هي مدة قيامه بدور الشرطي في بورما، كان عليه أن يمثل وبكل جدارة ممكنة دور الرجل “الأبيض” ليكتشف ما يمثله الاستعمار. وتكونت لديه القناعة “بخواء سيطرة الرجل الأبيض في الشرق”.
تجربته تلك التي كانت نقطة انعطاف في حياته، أوحت له بروايته “أيام بورما” التي ضمنها كل مشاعر الكره والعداء نحو النظام الاستعماري، وأظهر فيها جدلية العلاقة بين السيد والعبد. ومن خلال الرواية نجد التأثير الذي تركته حياته في بورما ودوره كرجل بوليس على فكره وحياته في شكل عام، وعلى رواياته اللاحقة، ولاسيما تلك التي تعود إليها شهرته “1984” وهو ما يعطيها أهمية كبيرة.
تدور أحداث “أيام بورما” في مدينة بورمانية صغيرة، يقيم فيها سبعة من الأوروبيين، يعمل معظمهم في شركات لاستثمار أخشاب الغابات. يعانون الملل، ويجدون ملاذهم في الادمان والجنس، و احتقار السكان الأصليين! يركز أورويل عبر الشخصية الرئيسة “فلوري” تاجر الأخشاب، الذي نجد فيه شيئاً من أورويل نفسه، على أثر المجتمع الاستعماري في شخصية أفراده ودوره في القضاء عليها وإذابتها في الجماعة وعلى الوحدة، التي يقاسيها كل من يختلف عن هذه الجماعة والمعاناة لمن ليس بمقدوره التعبير عن حقيقة أفكاره من كراهية ونفور لما يمثله الوجود الإنكليزي في الشرق. شارك فلوري وهو الإنكليزي الذي أحب بورما “هذا البلد المكروه أصبح بلده، مكانه … كل قطعة من جسده أصبحت الآن جزءاً من الأرض البورمانية” في إهانة صديقه الطبيب الهندي الذي أراد الانضمام إلى نادي الأوربيين المقتصر عليهم. ولكن فلوري كان يرفض دعمه لئلا يثير الخلافات. استجاب للآخرين “كما حصل له مئات المرات خلال حياته” كانت تنقصه تلك الشعلة من الشجاعة التي تجعله يرفض ما يتفق عليه الآخرون. إنه يكره العالم الإنكليزي الذي جاء منه إنما لا يستطيع إنكاره، ولا التعبير عن هذا الكره. ويعتبر العيش في عالم حيث “كل كلمة، كل خاطرة، خاضعة لرقابة … عالم لا يقبل فيه الكلام الصريح، فيما كل حرية أخرى مقبولة” هو عالم “خانق، مدمر”.
وفي أسلوب لا يخلو من التهكم يبين أورويل أساليب عمل الإدارة البريطانية ويهاجم الحضارة الغربية ويدحض، أسطورة الاستعمار “الإنساني” الذي جاء لنجدة أهل البلاد وإنقاذهم من الفقر والجهل عبر الحوار بين فلوري وصديقه الهندي: كيف تستطيع أن تتخيل أننا هنا لشيء آخر إلا لسرقة البشر..؟ “ويظهر سكان البلد إما كمرتشين، أو كمتعلمين جل طموحهم هو التشبه بالمجتمع الاستعماري الحاكم عبر الرغبة المستميتة في الانضمام إلى النادي الذي يتردد عليه الأوربيون”. كان الطبيب الهندي يغذي حيال الإنكليز إعجاباً لا حد له، وحتى لو لقي ألف صد من هؤلاء، فلن يزحزحه ذلك عن موقفه. أما الوطنيون فهم لا ينجون أيضاً من نقد أورويل اللاذع. فبعد توقيف رئيس تحرير صحيفة بورمانية ورفض السلطات إطلاق سراحه تقوم حركة احتجاج “معتدلة” أدى موت اثنين من المحتجين إلى “توقفها الفوري”. أما في السجن فإن إضراب رئيس التحرير عن الطعام “لم يدم أكثر من ساعات ست”.
خضع أورويل، أثناء تأديته لعمله في البوليس البريطاني، لسلسلة من الالتزامات جعلته يشعر بالاشمئزاز، ويبدأ بالتغير. وفي الشارع، كانت الإهانات توجه إليه من بعيد. وفي أحد الأيام، انهال بالضرب بعصاه وبكل قوته على وجه أحد الشبان البورمانيين الصغار، الذين أرادوا إثارته بنظراتهم المتفرسة وطريقة كلامهم الهازئة، فأصابه بالعمى. بقيت آثار تلك الحادثة تطارده لنجدها واردة كما هي في أحداث روايته. كما وردت تجربته تلك في نص له يدعى “إطلاق النار على فيل” وصف فيه كيف دفعته الجموع البورمانية إلى ارتكاب ما جعله يفطن إلى سلوكه الفظيع، إلى الشعب المقهور والمستعمر والذي يشعر نحوه بالكراهية، إلى قوة الالتزام بالوظيفة وكونه سخرة في يد النظام المتسلط. طلب منه إطلاق النار على فيل هائج لإردائه قتيلا. وفعل خوفاً من أن يتهم بالجبن أو بالجنون، وفي كل الأحوال كان هذا دوره، وقد أداه على أكمل وجه.
في بورما، تولدت لدى جورج أورويل مشاعر التحرر، و تملكه الإحساس بفظاعة التسلط. وعرف بأن ما يقوم به لم يكن بالمهنة التي تناسبه. وخلال إجازة له في لندن عام 1928 قدم استقالته وتحول نحو الكتابة. ثم لجأ الى باريس وعاش فيها فترة طويلة حياة غريبة كالمشردين قبل أن يعمل غاسلاً للأواني في مطعم. بعد عودته إلى إنكلترا، عمل مدرساً وصحافياً وكتب روايته الأولى “أيام بورما” عام 1934. شارك أورويل في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين وجرح في الحرب عام 1937، وانتابه شعور بالمرارة والإشمئزاز من التوتاليتارية الستالينية. وقضى عليه مرض السل الذي كان أصيب به عام 1950. وفي صراعه مع المرض في سنواته الأخيرة كتب عام 1984 قلب الرقمين الأخيرين ليضع العنوان أشهر رواية له “1984” وهي من قصص الخيال العلمي التي عبر فيها عن القلق الهائل الذي يساور الإنسان الحر في عصرنا الحالي ونجد فيها وصفاً متشائماً لمستقبل مرعب وعالم يسيطر فيه الرقيب أطلق عليـه لقب الأخ الأكبر وقوى الأمن على فكر الفرد. وهي الفكرة نفسها التي نجدها في “أيام بورما”، ويهاجم فيها أورويل ليس فقط الأنظمة السياسية القمعية وإنما عملية تزوير التاريخ التي تمارسها هذه الأنظمة بإعادة كتابتها المستمرة للتاريخ بما يلائم الفترة الزمنية التي تعيشها.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية