8 كانون الأول: سقوط للنظام أم للدولة؟ … بات لزاماً اليوم بعد سيل «المكاشفات»، الذي لم يتوقف تدفّقه بعد، بدءاً من حديث الرئيس أحمد الشرع الذي بثّته قناة «الإخبارية السورية» يوم 12 أيلول المنصرم، والذي اعترف فيه بوجود تنسيق تام ما بين «هيئة تحرير الشام» والقوات الروسية العاملة على الأراضي السورية بالتزامن مع انطلاق عملية «ردع العدوان»، يوم 27 تشرين الثاني 2024، بحيث أدّى ذلك الفعل إلى «تحييد تلك القوات تماماً عمّا يجري على الأرض».
ثم وصولاً إلى الحوار الذي أجراه ديفيد بترايوس، مدير «وكالة الاستخبارات الأميركية» السابق مع الرئيس الشرع خلال حضور هذا الأخير لمؤتمر «كونكورديا» المنعقد في نيوريورك على هامش اجتماعات الدورة 80 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي قال فيه الأول بالحرف: «حين كنت أقاتل تنظيم القاعدة كنت أسأل عن مجموعتكم، جبهة تحرير الشام، وكنت أقول يمكننا العمل مع هؤلاء الأشخاص لأنهم وطنيون».
وقبيل ذلك بأربعة أشهر كان «اعتراف» روبرت فورد، آخر سفير أميركي لدى دمشق، والذي أدلى به أمام مجلس «بالتيمور للشؤون الخارجية» بولاية ميريلاند الأميركية، وجاء فيه أن «الاستخبارات البريطانية كانت قد طلبت منه، عام 2023، المساعدة في إعادة تأهيل أحمد الشرع»، بغرض «تحويله من عالم الإرهاب إلى عالم السياسة التقليدية».
نقول بات لزاماً، بعد كل هذا، إعادة رسم ملامح الصورة، التي شابها الكثير من الغموض، وصولاً إلى طرق سؤال تبدو الإجابة عليه الآن أكثر من مُلِحّة: هل كان يوم 8 كانون أول 2024 سقوطاً للنظام القائم، أم كان سقوطاً للدولة جرى ترتيبه بعناية فائقة منذ سنوات؟
للإجابة على هذا السؤال الوارد أعلاه يمكن الاستناد، بعيداً عن التصريحات والمكاشفات السابقة التي قد يصفها البعض، ولربما كان في الأمر بعض ما يدعو إليه، أنها «إعلامية»، وذات أغراض خاصة من النوع الضاغط على السلطة بهدف استفزازها من جهة، والسعي إلى قولبتها في سياقات محددة من جهة أخرى، إلى عملية لحظ ملامح سوريا الجديدة على مشارف العام الأول للسقوط. فالأمور بالنتائج، ثم إنّ الأحداث تنبئ عنها ظلالها كما يقال.
وفي ذاك، يمكن القول، إن الأشهر الـ11 المنصرمة، كانت قد حفلت بالكثير من التموضعات، والأزمات، والانتهاكات، والفوضى، وما سبق قاد، من حيث النتيجة، إلى شروخ مجتمعية تنوّعت ما بين الطائفي، والديني، والعرقي، ووصلت ببعض المكوّنات إلى حدود المطالبة بالتقسيم والانفصال، ما أحال واقع الدولة إلى ما يشبه «دولة الأشباح»، التي تفكّكت «لواصقها»، حتى غدا المتوافر منها عاجزاً عن القيام بأداء دوره.
في توصيف ذلك الواقع، انقسم السوريون إلى شطرين اثنين:
الأول، يرى أن مجرد سقوط النظام، القائم منذ نحو 54 عاماً بكل ما خلّفته تلك الفترة المديدة من حمولات على المجتمع وقواه الفاعلة، يشكّل، وحده، بوابة نحو غد جديد للبلاد، أمّا بقية «الهواجس» مثل الأمن والانتهاكات والتهجير، فعلاجها يحتاج إلى وقت قد يطول أو يقصر تبعاً لاعتبارات عدة. وفقاً لهؤلاء، الذين يكملون رؤيتهم فيقولون بأن الأولوية الآن هي للمحافظة على «المعول» الذي استطاع هدم «البناء» القديم الذي «تعفّن» حتى غدا غير قابل للاستمرار. وفي ذرائعهم التي يسوقونها لتبرير الدعوة للمحافظة على ما سبق يذكرون أن سني حكم «البعث» المديدة كانت كافية للقضاء على كل «نويات» النهوض، بدءاً من سحق الحريات، والقضاء على التشاركية، وصولاً إلى قولبة المجتمع في اتجاهات يحتاج حرف مسارها إلى أوقات طويلة قد تستمر لعقود.
فيما يرى الثاني، أن ما جرى يوم 8 كانون الأول الفائت ليست له علاقة بسياقات 18 آذار 2011، اليوم الذي يوثّقه الجزء الأوزن من السوريين كبداية للتمرد على منظومة الاستبداد والقمع. وما جرى في المحطة الأولى، وفقاً لهؤلاء، كان سيناريو تمّ رسمه في غرف استخبارات إقليمية ودولية، وهذه الأخيرة كانت قد استندت إلى «ذراع» محلية لا علاقة لها بالحراك «الثوري» الذي مثّلته المحطة الثانية. ويضيف هؤلاء، أن مشروع تلك «الغرف» يقوم، بالدرجة الأولى، على هدم «القديم» الجيوسياسي، وبناء آخر جديد على أنقاضه، حيث سيقود هذا الأخير إلى تغييرات كبرى ليس على مستوى سوريا فحسب، بل على امتداد المنطقة برمّتها.
والمهم لنا كسوريين، ونحن لا نزال في سياق الرؤية التي يتبناها التيار الثاني، هو أن منعكسات ذلك المشروع سوف تؤدّي بالضرورة إلى إعادة إنتاج نظام ديكتاتوري، سيكون أكثر شمولية من الذي سبقه، إذ لطالما كان من الثابت أن السلطات التي جمعها الشرع بين يديه لم تجتمع لأيّ من الأنظمة التي تناوبت على السلطة في البلاد منذ استقلالها.
يمكن القول، إن هذا «الإنشطار» لا يزال في طوره الجنيني الآخذ في التبلور على وقع مؤثّرات الداخل والخارج على حد سواء. والمؤكد هو أن الفعل، أي التبلور، يمتلك مشروعية كبيرة انطلاقاً من امتلاكه للكثير من شروطه الموضوعية التي من أبرزها توافر «الحامل الاجتماعي» لكلا شقّيه. فالركيزة التي يقوم عليها التيار الأول تستند إلى شرائح مكوّنة من معارضي النظام السابق من «السنّة»، إضافة إلى الجماعات التقليدية والدينية والعشائرية. أمّا ركيزة التيار الثاني، فتستند إلى شرائح جلّها من الشباب والطلاب، إضافة إلى المكوّنات «الأقلوية» التي تسعى إلى بناء دولة عابرة للطوائف والأديان والأعراق. وهذه التموضعات الحاصلة بين الطرفين لم تعد تمثّل مجرد اختلاف في «الرؤية»، بل باتت أقرب إلى مشروع دخل مرحلة «المدّ والجزر»، بين نسج مجتمعية-ثقافية وجدت نفسها أمام صراع أقرب إلى «الوجودي»، حيث انتصار المشروع الآخر سيكون كفيلاً بتهديد نمط عيشها، وأفكارها وتقاليدها، وصولاً إلى تهديد «سورياها» التي تنشدها.
هذا الصراع، ومآلاته المحتملة، لم يكن كلّ ذلك بعيداً عن حسابات الخارج الذي حسم قراره عند الذهاب إلى دعم «محطة» 8 كانون الأول 2024 السورية. وهذه الأخيرة كانت تدرك حتمية «الانفجار» القادم، فيما توقيته كان رهيناً بـ»حنفية» الزيت التي ظل الخارج مصرّاً على الإمساك بها. وتلك كانت «خلاصة» الدرس العراقي، عندما ذهب بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي إلى العراق بعد سقوط بغداد في شهر أيار من عام 2003، باتخاذ القرارات القاضية بحل الجيش، ومؤسسات الأمن، إسراعاً في تمزيق بنيان الدولة العراقية وتهتّك أنسجته.
لكن ذلك جاء على طريقة ترك «مسكار» الحنفية سائباً ودون تدخّل. وإذا ما كان أحمد الشرع قد ذهب إلى استنساخ سيناريو بريمر ذاته، حلّ الجيش والأحزاب، لكنّ «عيار الحنفية» بدا مضبوطاً بأيدٍ خارجية، كضرورة لضبط «ديناميات» التفكّك، ومحاولة وضعها تحت السيطرة كيلا تؤدّي إلى انفجار تام للمنطقة برمّتها.
اليوم، بعد 106 سنوات على إعلان قيام «المملكة السورية» التي كانت نتاجاً للمقررات التي اتخذها «المؤتمر الوطني السوري» عام 1919، وبعد 105 على سقوط حكومة الملك فيصل التي شكّلت «جنين» الدولة السورية الحديثة، تشير ملامح هذه الأخيرة إلى أنها باتت على شفا هاوية السقوط بحدّيْها: التاريخي والجغرافي، وبمفاعيل عدة أبرزها أن «الخارج» أجاد وضع «ديناميات» التفكّك على «السكّة» التي بدا «مزلاجها» من النوع المُيسِّر لحركة هذه الأخيرة.
* كاتب سوري
صحيفة الأخبار اللبنانية