هل من غموض في الخطة الأميركية؟

غموض الخطة الأميركية يزداد ويطرح بدائل
ما زلت غير مصدق أن يجرى التعامل مع قضية دولية مهمة، وأقصد قضية التصدي للتنظيمات الإرهابية، على هذا النحو الهزيل من الأداء. قلت، كما قال غيري، لعله الغموض المتعمد، غموض يريدونه بناء، يخفون خطوات وترتيبات ليفاجئوا العدو . بالغموض ربما يريدون كسب الوقت حتى يكتمل تجهيز حملة القضاء على الإرهاب. قال آخرون إنه إذا لم يكن الغموض المتعمد السبب في هذا الأداء السيئ، فلعل السبب هو هذا التناقض في كثير مما يصدر عن القادة السياسيين والعسكريين وكل من له صلة بخطة التصدي لـ«داعش» وأخواتها.
حرب أم لا حرب
الغموض والتناقض صارخان ومتلازمان منذ بداية الإعلان عن الخطة التي وضعها الرئيس أوباما للتعامل مع الإرهاب في العراق وسوريا. لم نفهم إن كنا مقبلين على حرب أم إجراءات لا يعكس مجموعها معنى الحرب . تصف الخطة نفسها بأنها متدرجة ومتصاعدة وأنها تتكون، بحسب إحدى صياغاتها، من ثلاثة مكونات. هذه المكونات هي القصف الجوي وإنشاء حلف متعدد الجنسية وإرسال 475 ضابطا وجنديا إلى شمال العراق، كمدربين ومستشارين غير مرخص لهم القيام بمهام قتالية، ومع ذلك تنص الصياغة على أن تكون وظيفتهم الأساسية «تنفيذ حملة مناهضة للإرهاب» .
في صياغة أخرى، جاء ترتيب مكونات الخطة على الوجه التالي: قصف جوي ودعم الحلفاء استخباراتيا و«حرب ضد الإرهاب « و«مساعدات إنسانية» و«أداء واجبات الدفاع ضد هجمات داعش» .
هل نحن في الطريق إلى حرب؟ وإذا لم تكن حربا، فما هو الشكل المتوقع للتصدي للتنظيمات الإرهابية؟ الرئيس أوباما قال إنه لن يتوجه بأميركا نحو حرب، وينكر بشدة وجود حالة حرب. ولكن هناك في أميركا وخارجها من يعتقد أننا في خضم «جزء» من الحرب ضد الإرهاب. بمعنى آخر، نحن بصدد حرب. والظاهر على كل حال هو أن الأميركيين وآخرين يستعدون لحرب. لا أرى عنوانا آخر غير الحرب يصلح لوصف حالة من التوتر الشديد والقلق في العلاقات الدولية تعبأ لها الجيوش والأساطيل والصواريخ، وفي الوقت نفسه، يعبأ لها عساكر الدورية وخفر السواحل والموانئ والمطارات وخفر القرى والنجوع ونساء ورجال الإعلام . ومع ذلك يؤكد الرئيس أوباما أنها ليست حربا ولن تكون حربا.
من هو العدو؟
الاجتماعات تعقد في مدينة بعد أخرى، في جدة وباريس ونيويورك والقاهرة وكارديف، لمناقشة الوضع الإرهابي الجديد في المشرق . لم تعقد اجتماعات شبيهة لمناقشة الوضع الإرهابي المتردي في نيجيريا واليمن وكينيا والصومال، برغم أن العدو واحد، أو هكذا أفهم. لم أقع حتى اليوم على تعريف واحد واضح وغير ملتبس لهذا العدو الذي يجمعهم عندما ينشط في المشرق ويفشل في جمعهم عندما ينشط في نيجيريا أو في مصر.
العدو، بحسب الرئيس أوباما، لا يخرج عن كونه «مجموعة صغيرة من القتلة استطاعت أن تجذب اهتمام العالم بأسره». هو يقصد «داعش». يراها مجموعة صغيرة. ولكن يعود فيؤكد أنها برغم صغرها، فالخطر الذي تمثله «فريد في نوعه». قال: «سنتدخل بسبب التهديد الفريد الذي تمثله داعش». لكن الرئيس الأميركي في خضم الغموض المحيط بخطته وأهدافه يقول إن أميركا ستتدخل للدفاع عن هؤلاء الذين «يقاتلون من أجل الحرية». يقول هذا وهو يعلم أن «داعش» وأخواتها، جاؤوا إلى سوريا تحت سمعه وبصره ورضائه «ليقاتلوا من أجل الحرية» وحصلوا على الدعم اللازم من دول هي الآن في حلفه المناهض لها.
هل يعنى هذا أن العدو كان حليفا ظريفا ناعما ومقاتلا من أجل الحرية قبل أن يصبح عدوا خشنا متوحشا ومعاديا للحرية؟. أم أن الظروف تتطلب وجود عدو لتتشكل من أجل مناهضته تحالفات، وتخصص لمحاربته أموال ويعاد بفضله تنظيم صفوف دول المنطقة وتصنيفها على أسس جديدة؟.
المشكلة مع الحلفاء
أتصور أنه يتوفر الآن ما يقارب الإجماع بين المعلقين على أن حلفاء أميركا، غير مقتنعين هذه المرة بحق أميركا المطلق في التوجيه والقيادة، أو حتى بقدرتها على القيام بهما. أستطيع من جانبي أن أفهم سلامة هذا المنطق الجديد في العلاقات الدولية. إذ لم يعد خافيا أن الولايات المتحدة لم تُبْلِ بلاءً حسنا في العدد الأكبر من القضايا الدولية التي تدخلت فيها في السنوات الأخيرة. الحلفاء في الشرق الأوسط مثلا يدركون أكثر من غيرهم هذا الأمر بعد أن قضوا عقودا ينتظرون حلا للقضية الفلسطينية وعدتهم به أميركا ومنعتهم من تنفيذ حلول أخرى، وقضوا عاما كاملا يراقبون بشك كبير النتائج الهزيلة إن لم تكن السلبية لوساطة جون كيري بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ما زلنا نرى عدم الرضا باديا وباردا، على مواقف الدول الأوربية وغيرها إزاء قيادة أميركا للغرب في المواجهة الجديدة مع روسيا. الشيء نفسه ينطبق على الحلف الجاري تشكيله حاليا. لقد عجزت شخصيا عن العثور على سبب آخر يبرر هذا «التثاقل» العربي في الاستجابة لجهود أميركا ضم الدول العربية الأساسية إلى الحلف. بل وأثار انتباهي في الأيام الماضية هجوم إعلامي صريح في بعض الأحيان ضد السياسة الأميركية. أميركا متهمة في الإعلام الرسمي بأنها تسعى إلى ضرب الجيوش العربية وتفكيكها. هذه الجيوش مطلوبة أميركيا لمحاربة داعش وأخواتها.
لا يخفي متخصصون عرب قلقهم من عودة أميركا إلى العراق واختياره ساحة أساسية لتنفيذ خطة الحرب. فالتغيير الذى طالب به بعض العرب في نظام الحكم في بغداد لا يبدو مقنعا لهؤلاء العرب، فضلا عن أن الأمور في أنحاء العراق لا تشجع بقية العرب على المجازفة بالمال والرجال في حرب على أرض حليف منهك.
من ناحية أخرى، قليلون في الساحة العربية هم القادرون على فهم العلاقة بين الحلف الأميركي والنظام السوري.. تعبنا ونحن نحاول فك طلاسم التدخل العربي المشترك تحت قيادة أميركية في حرب في سوريا حيث الكل يحارب الكل.
أظن أن مصر لن تجازف فتشترك في تنفيذ خطة ضد عدو خارجي لم تتحدد مواصفاته بدقة، بينما» العدو» في الداخل يحتل اهتمامها الأكبر . لن تجازف حكومة مصر فتدخل ضمن حلف يفتقر إلى التكامل والثقة المتبادلة بين الأطراف وقيادة الحلف وبين الأطراف وبعضها البعض. أظن أن مصر غير راغبة في المخاطرة بمستقبلها من أجل خطة قد يترتب على فشلها ونجاحها تحولات جذرية في خرائط المنطقة الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وهي بالتأكيد غير مرتاحة إلى الرؤى المتضاربة في سياسات أميركا الخارجية، خاصة سياساتها تجاه الشرق الأوسط.
العقدة الأميركية
يبدو أن أوباما سوف يحصل لنفسه على ما تعود أن يحصل عليه رؤساء أميركا السابقون، وأقصد الحرب الخاصة به. قد يستمر في إنكار أنها حرب، أو يقلل من أهميتها، أو يوزع معظم مهامها على حلفاء عرب وغير عرب، ولكن سيسجل التاريخ أنه حصل على حرب باسمه، حرب تناسب ظروفه وتطلعاته المتواضعة، فالتهديدات الكلامية الصادرة عن «العدو» متناهية الشر والوحشية، ومع ذلك لا تتطلب مواجهتها سوى أدوات حرب متدنية المخاطر، فلا جيوش برية ولا إقامة على الأرض . يظل أهم ما في هذه «الحرب» أنها غير محددة الأمد، بدأت مفتوحة واستمرت مفتوحة وتنذر بأن تبقى مفتوحة ما بقي النظام الإقليمي رهن التشكيل.
إلا أن حربا، أيا كان شكلها في المنطقة، وفي هذا التوقيت بالذات، لا بد أن تحمل توقعات غير مألوفة أو مسبوقة.
والمنطقة ما تزال على فوهة بركان الربيع العربي، حيث العلامات متضاربة ومتشابكة وحيث النتائج لا تزال تنضج على نيران العنف وفقدان الثقة وعودة العهود القديمة.
هناك من يعتقد أن «داعش» تجسيد لخيبة أمل عامة في المنطقة من مواقف القوى الحكومية والمتحكمة والقوى الدينية الوسطية، وجميعها حارب ثورات الربيع ولا يزال يحاربها. الأمر الذي لا تخطئه عين أو أذن هو أن أميركا، وغيرها من دول الغرب ومن الأنظمة الحاكمة العربية، تتعامل الآن وستتعامل مستقبلا مع «إنسان عربي مختلف»، حتى وإن بدا هذا الإنسان لها غير مبال وغير متحمس وغير مهتم.
عقدة أخرى يحاول خبراء الأمن الأميركيون الالتفاف حولها هي تلك المتعلقة بتسليح كتائب عربية وتدريبها على الحرب ضد الإرهاب. بمعنى آخر تحاول أميركا مرة أخرى»تصنيع» إرهابيين جدد تحت اسم كتائب مناهضة الإرهاب، سلاح قديم جربته واتضح أنه ذو حدين، أحدهما أصاب الولايات المتحدة وحلفاءها إصابات غائرة.
حلول
لا شك أن معظم البدائل المطروحة فاشلة منطقيا وعمليا، لتجاهلها تحولات عديدة وقعت، وتطورات تحدث يوميا. ومع ذلك مطروحة بدائل لم أتصور أن يوما سيأتي وأسمع نقاشا جادا حولها. سمعت أصدقاء، هنا وفي الخارج، يناقشون ما يلي:
أولا : فكرة الاستغناء كلية عن جيوش أميركا وخططها وحلفائها وإحلال كتائب من الجنود المرتزقة تابعة لشركات خاصة. تقدير هؤلاء الزملاء أنها ستكون أوفر في التكلفة، وبعيدة عن الضغوط السياسية المرهقة، ولا مصلحة لها ولا هدف أيديولوجي. ناهيك عن أن جنودها لا تنقصهم الوحشية اللازمة للتعامل مع وحوش «داعش» وأخواتها.
ثانيا: فكرة تشجيع إجراء تغيير جوهري في طريقة عمل وتفكير بعض الحكومات التقليدية إلى الحد الذي يدفع هذه الدول إلى الاقتناع بضرورة شن حرب أيديولوجية. تهدف هذه الحرب إلى نسف بعض مخططات الفكر المتشدد والتكفيري، وتحويل ملايين الدعاة والمنشغلين بقضايا مناهضة للتطور والحداثة والاعتدال الديني إلى بشر منتجين. بمعنى آخر، قيادة ثورة عربية وإسلامية شاملة للتحديث الديني، وهي الثورة التي تأخرت قرونا.
ثالثا: فكرة أن يأتي الحل من خلال «يقظة قومية كبرى»، أو بمعنى أدق انطلاق مرحلة جديدة في الحركة القومية العربية. أمل هؤلاء الحالمون أن يظهر في العالم العربي من اقتنع بفشل كل التجارب التي أعقبت انحسار التيار القومي، وبإمكانية إنعاش إيجابيات هذا التيار ومزجها بإيجابيات التيارات السياسية والاجتماعية الأحدث في العالم.
صحيفة الشروق المصرية