استراتيجيّة “جزّ العشب” الإسرائيليّة ومعوّقاتها
هل تمتلك “إسرائيل” القدرة على تنفيذ استراتيجية الجولات القتالية “جز العشب”؟ وما العقبات التي يمكن أن تواجهها؟ وهل لديها القدرة على تخطيها؟
أجرى “الجيش” الإسرائيلي خلال الشهر الماضي مناورتين عسكريتين تدريبيتين تحاكيان حرباً على حزب الله في الجبهة الشمالية، إذ أجرت كامل وحدات سلاح الجو الإسرائيلي، بما فيها منظومات الدفاع الجويّ، مناورة “وردة الجليل” القتالية. أما المناورة الثانية “عاصفة البرق”، فقد أجرتها قيادة المنطقة الشماليّة في “الجيش” الإسرائيلي لمحاكاة جولة قتال ضدّ حزب الله لمدة عدة أيام.
تأتي مناورات “الجيش” الإسرائيليّ ذات التوجّهات الهجوميّة ضد حزب الله في إطار خلاصة التّقديرات الاستخباراتيّة الإسرائيليّة التي تعتقد أنَّ من المحتمل أن يجد “الجيش” الإسرائيلي نفسه في جولة قتال مع حزب الله لمدة عدة أيام، في ضوء ارتفاع حالة التوتر في الجبهة الشماليّة بشكل عام.
يحمل حديث المسؤولين العسكريين الإسرائيليين عن مصطلح “جولة قتال ضد حزب الله لعدة أيام” في طياته أنَّ هناك إمكانية إحداث تغييرات في استراتيجية “الجيش” الإسرائيلي تجاه حزب الله، تتمثل بالانتقال من استراتيجية المعركة ما بين الحربين إلى استراتيجية الجولات القتالية المحدودة الزمن ضده، والتي يطلق عليها استراتيجية “جز العشب”، وهي تسعى إلى توجيه ضربة قوية مكثفة إلى قدراته العسكرية الاستراتيجية، مثل منظومة الصواريخ الدقيقة وبعض المنظومات القتالية التي تصنفها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية خطراً لا يمكن السكوت عنه ولا يمكن تدميره في إطار العمل السري لاستراتيجية المعركة ما بين الحربين، التي تعتمد على ممارسة الضغط على حزب الله باستخدام القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والدبلوماسية، شرط عدم تدحرج الأمور إلى حرب مفتوحة، من خلال الاعتماد على العمل السري غير المعلن من قبل “إسرائيل”، وخصوصاً في الجبهة اللبنانية.
يبقى السؤال المطروح: هل تمتلك “إسرائيل” القدرة على تنفيذ استراتيجية الجولات القتالية “جز العشب” تجاه حزب الله؟ وما العقبات التي يمكن أن تواجهها؟ وهل لديها القدرة على تخطيها؟
إنّ انتقال “إسرائيل” من استراتيجيّة المعركة ما بين الحربين إلى استراتيجية الجولات القتالية المحدودة “جز العشب” تجاه حزب الله في الجبهة الشماليّة يصطدم بعدة عقبات، من أهمها:
أولاً، مارس “الجيش” الإسرائيلي استراتيجية “جز العشب” تجاه المقاومة الفلسطينيَّة في قطاع غزة، من خلال الحروب والجولات القتالية المتعددة معها منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة في العام 2005، ولكنّ التجربة الإسرائيلية أثبتت أنَّ تلك الاستراتيجية لم تمنع المقاومة في غزة من تعظيم قدرتها العسكرية، بل استطاعت المقاومة الفلسطينية وضع قواعد اشتباك عسكرية وسياسية تحدّ من قدرة “الجيش” الإسرائيلي على استخدام استراتيجية “جز العشب” وقتما شاء، بمعنى أنَّ هذه الاستراتيجيّة غير مضمونة النتائج، بل من الممكن أن تؤدي إلى توازنات ردع عكسية تجاه “إسرائيل”.
ثانياً، أحدثت الأزمة السورية عدة تغيرات استراتيجية عسكرية لصالح حزب الله، أهمها أنه لم يعد تنظيماً مقاوماً لبنانياً، بل بات رأس حربة لمحور مقاومة يحيط “إسرائيل” بدوائر النار. أضف إلى ذلك أن الجبهة الشمالية اختلفت عما اعتادت عليه “دولة” الاحتلال سابقاً.
لذلك، إن الكثير من العسكريين الإسرائيليين يتحدثون عن “حرب الشمال الأولى” بدلاً من “حرب لبنان الثالثة”، في حال تمت المواجهة مع حزب الله، بمعنى اتساع المواجهة على الجبهة الشمالية جغرافياً، الأمر الذي يزيد من حسابات أي مواجهة مع الحزب، من خلال عدم القدرة على التحكم الكامل إسرائيلياً بالحدود الجغرافية لميدان المعركة، ما ينعكس عدم قدرة على ضمانة تحديد المدة الزمنية لأي مواجهة مع حزب الله، وهو ما أكده سماحة السيد حسن نصر الله في خطاباته.
ثالثاً، يسعى “الجيش” الإسرائيلي منذ حرب تموز 2006 إلى تطوير قدراته العسكرية وهياكله القتالية، بدءاً من خطة “تيفن”، مروراً بخطة “جدعون”، وصولاً إلى خطة “تنوفا”. كل ذلك في سبيل تحقيق النصر في مواجهة تنظيمات المقاومة، سواء على الجبهة الشمالية أو الجنوبية؛ تلك التنظيمات التي تعتمد على ما يسمى القتال الهجين الذي يضم الأسلوب العسكري التقليدي للجيوش، وفي الوقت ذاته أسلوب قتال العصابات.
من الواضح أنَّ جهوزية “الجيش” الإسرائيلي لم تكتمل بعد، وخصوصاً مع ازدياد تعقيدات الجبهة الشمالية وتعاظم قدرات حزب الله الهجومية، سواء من خلال منظوماته الصاروخية أو بعض المنظومات الهجومية الأخرى، الأمر الذي يجبر متخذي القرار الإسرائيلي على التفكير ملياً في الخسائر التي ستحدثها قدراته الهجومية، ولا سيما داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
لذلك، إنّ استراتيجيّة “جز العشب” الإسرائيلية وصفة مضمونة لاستنزاف الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة بشكل متكرر، الأمر الذي يتعارض مع أسس الأمن القومي الإسرائيليّ الساعي دوماً إلى توفير المناخ المناسب لاستمرار الحياة اليومية والاقتصاديّة للمستوطن الإسرائيليّ.
رابعاً، يعتبر موقف الولايات المتحدة الأميركية ذا تأثير مباشر في قرارات الأمن القومي الإسرائيلي. لذلك، لا بدَّ من التنسيق الإسرائيليّ الكامل مع البيت الأبيض قبل الذهاب إلى أيّ مواجهة عسكريّة، وخصوصاً مع احتمال تدحرجها إلى حرب مفتوحة من المؤكد أنها ستخلط أوراق الشرق الأوسط برمّته، الأمر الذي يتعارض مع توجّهات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السياسية على الأقل في الوقت الحالي، والذي سينظر إلى أيّ مواجهة عسكرية من قبل “إسرائيل” باعتبارها تضع عراقيل إسرائيلية أمام سياساته تجاه الشرق الأوسط، وخصوصاً العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي مع إيران.
وإذا أضيف الموقف الروسي السّاعي لاستدامة الهدوء في الجبهة الشمالية، نجد أنَّ من الصّعوبة على “إسرائيل” أن تقفز بالذّهاب إلى مواجهة عسكريّة تتعارض مع موقف أهم الدول العظمى المقرّرة في الشرق الأوسط.
اصطدام استراتيجيَّة الجولات القتالية “جزّ العشب” الإسرائيلية بتلك العقبات، من الممكن أن يجعل فكرة تطبيقها غير ممكنة، والأهمّ غير مجدية إسرائيلياً.
الميادين نت