سوريا ولبنان بين شعارت النصر وعلبة الحليب
“شعبٌ وحّده القهر في دولتين شقيقتين”. هذا هو شعار المرحلة اليوم في لبنان وسورية. لعل عبارة مقهور هي أقل توصيف للأحوال الاقتصادية والإجتماعية وفقدان الأمل والقلق من المجهول. وسيكون من السذاجة الإعتقاد بأن الملفين منفصلان. هما على العكس تماما مرتبطان عضويا وعميقا، ولن يكون حلٌ لأحدهما بلا الآخر. وسيكون من السذاجة أكثر التأمل بأن تأليف الحكومة في لبنان أو الانتخابات الرئاسية في سورية هما بداية الحل. ذلك أن التعقيدات الإقليمية والدولية جعلت الملفين خاضعين لاعتبارات كثيرة تتخطى حدود الدولتين.
في 30 حزيران/يونيو 2012 أي منذ نحو 10 أعوام، بدأ التفكير بالحل السياسي السوري على قاعدة الخارج، حين ترأس كوفي أنان مجموعة العمل الدولية التي ضمت معظم الدول الكبرى من أميركا وروسيا والصين والاتحاد الاوروبي الى تركيا وقطر والعراق والكويت ( ممثلين عن جامعة الدول العربية). كانت معظمها مقتنعة بسقوط وشيك للقيادة السورية ورحيل الرئيس بشار الأسد. فدعا اجتماع “جنيف 1” لوقف الحرب والشروع في حل سياسي والإفراج عن المعتقلين.. ثم جاء جنيف 2 تعبيرا عن تفاهمات روسية أميركية لجمع ممثلي الحكومة والمعارضة السوريتين في مطلع العام 2014. وفي العام 2015 صدر القرار الدولي رقم 2254 بالاجماع لوقف اطلاق النار والشروع في التسوية السياسية والهيئة الانتقالية للسلطة، لكن موسكو نجحت في قلب المعادلة ، فانخرطت عسكريا بشكل مُباشر في سورية وفرض مسارات أخرى لحل مقبول الى حد ما من قبل الأسد في استانا وسوتشي ( اعتمدت في ذلك خصوصا على تركيا وايران) ابتداء من العام 2016 .ثم عاد الكلام عن جنيف واللجنة الدستورية و5 اجتماعات فاشلة بين ممثلي الحكومة والمعارضة.
10 سنوات من الكلام السياسي الدولي الفارغ، بينما كانت الحرب تشتد وطأة، وتميل شهرا بعد آخر لصالح القيادة السورية الحالية وحلفائها من روسيا وايران الى حزب الله. يربحون على الأرض لكن بلا أفق سياسي قادر على فك الطوق عن البلاد. كان واضحا أن هدف المحور المدافع عن سورية ( رغم تباينات عديدة في مراحل معينة بين روسيا وايران) هو الاستمرار بدعم الجيش السوري لاستعادة الأرض بالقوة مع بعض التسهيلات السياسية والاجتماعية والمصالحات والعفو التي تُجنب المحور معارك كبرى، وتحدث انفراجات وتنقع أميركا بأن القرار الدولي في سورية هو روسي وان التنسيق معها هم المفتاح.
في مثل هذه الشهر بدأت شرارة الحرب السورية عام 2011. صحيح ان الكفة العسكرية مالت بشكل جذري لصالح القيادة الحالية عبر استعادة المدن الكبرى، لكن الصحيح أيضا ان الفقر ازداد، وان ثمة مناطق ترفع العلم التركي وتُدرّس اللغة التركية، ومناطق أخرى تخضع لسيطرة الكرد وأحلامهم الواقعية او الخيالية، ومناطق ثالثة تستولي على الزراعات الكبرى والنفط، ومناطق رابعة محاذية لفلسطين تطرح علامات استفهمام كثيرة … فأحلام التقسيم عند البعض ما تزال قائمة.
وماذا عن لبنان ؟
تشير المفارقات الغريبة إلى تقارب مّذهل في تواريخ تفاقم أزمة سورية مع لبنان. ففي العام 2011 أيضا، أي في عام اندلاع الحرب السورية، استقال وزراء تكتل الإصلاح والتغيير وحركة أمل وحزب الله من حكومة سعد الحريري. برّروا ذلك ب :” نتيجة التعطيل الذي أصاب الجهود الرامية إلى تخطّي الأزمة الناتجة عن عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” واتهموا فريق الحريري ب:” الرضوخ للضغوط الخارجية لا سيما الأمريكية”.
في أجواء الانخراط الروسي في سورية وبداية تعديل موازين القوى تم انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للبنان في خريف العام 2016 بدعم من الفريق الذي يشارك في الحرب السورية أي حزب الله.
7 سنوات من الولاية الثالثة للرئيس بشار الأسد، والدخول في السنة الخامسة لرئاسة ميشال عون، لم يشهدا أي انفراجات اقتصادية أو اجتماعية، بل على العكس تماما تفاقم الفقر والبطالة وتدهورت العملتان الوطنيتان، وصار الناس يتجمعون في الطوابير أو يتقاتلون على المواد الاستهلاكية. والناس غالبا ما يحمّلون الطرف الحاكم أو الأقوى المسؤولية المباشرة. هذه طباع المجتمعات.
هذا ليس بأمر عابر أبدا. فسوريا ولبنان جزء مفصلي من حرب المحاور. مطلوب منهما تغيير كل الاستراتيجية السياسية حيال الصراع مع إسرائيل. صحيح أن الدولتين لم ولن ترفضا التفاوض مع اسرائيل ( مفاوضات سورية اسرائيلية حصلت سابقا والقمة العربية للسلام التي استندت الى مبادرة الأمير السعودي عبدالله عقدت في قلب بيروت وجرت مؤخرا مفاوضات حدودية بحرية بين لبنان واسرائيل)، لكن المطلوب أكثر. يجب إخراج إيران وحزب الله من المعادلة العسكرية، واضعاف دورهما السياسي لاحقا الى أقصى حد. هنا بيت القصيد
ماذا يفعل الأسد وحزب الله للخروج من الفخ؟
- إن ربحَ ما بقي من معارك عسكرية كبرى في سورية صعب بلا قرار روسي لأن الغطاء الجوي المطلوب هو بيد الرئيس فلاديمير بوتين ، ولأن بعض المعارك تكون شرسة الى حد الانتحار. وموسكو لا تريد ذلك، حتى لو رغبت به طهران ودمشق وحزب الله في لحظات معينة.
- التنازلات الكبرى لتسوية سياسية تعزز وضع معارضة الخارج في السلطة، مستبعدة تماما من قبل القيادة السورية. وأما المعارضة فما عاد عندها غير اللجنة الدستورية تتمسك بها، لأن كل المراهنات على الخارج انهارت وهي أصلا تفتت الى معارضات متناقضة متنافرة. لعل الخارج كان يريد اطالة زمن الحرب أطول فترة ممكنة وليس حسمها. أو أنه عجز عن حسمها. الاحتمالان واردان.
- موقف روسيا ضبابي حاليا بسبب عدم وضوح الرؤيا مع الرئيس جو بايدن الذي استهل خطابه بالهجوم على النظام الروسي. لذلك فموسكو تضغط سياسيا على دمشق لكن بمستوى مقبول كي يحصل تطور سياسي قبل الانتخابات الرئاسية وربما لا تعارض تأجيل الانتخابات اذا كانت اللجنة الدستورية تحتاج ذلك ، وتستمر في السعي لتفاهمات مع أميركا رغم التعقيدات ولا تعترض هجمات إسرائيل وانما تحاول فتح بوادر حسن نية مثل اشرافها على تبادل الأسرى.
على الأقل حتى الساعة، لا شيء يشير الى أي رغبة عند القيادة السورية بتأجيل الانتخابات التي قد تجري بناء على الدستور القائم فقط وسيفوز بها الأسد بنسبة تقارب 70 بالمئة، لكن هذه القيادة بحاجة الى دعم اقتصادي ونفطي وغذائي ومالي من الحليفين الرئيسيين أي روسيا وإيران، ولا يفهم الناس خصوصا الفقراء في سوريا لماذا يجوعون ولسوريا حلفاء دوليون من روسيا والصين اضافة طبعا الى إيران. صحيح ان الوضع الاقتصادي لموسكو وطهران ليس جيدا بسبب العقوبات والضغوطات أيضا، لكن ثمة حرب محاور تفترض تضحيات أكبر.
في لبنان كذلك المسألة معقدة أمام حزب الله للأسباب التالية:
- لا هو قادر على فرض تغيير جوهري بالقوة، أولا لأنه يُدرك بقناعة تامة أن لا أحد يستطيع فرض رأيه على الطوائف الأخرى الا مؤقتا في بلد بالغ التعقيد الطائفي. وثانيا لأنه لا يرغب بأن يفعل ذلك، وثالثا لأنه لو فعل لصار وضع لبنان بالحصار والعقوبات أسواء من غزة .
- ولا هو قادر أو راغب بتقديم تنازلات كبرى للمحور الآخر في أعقاب انخراطه العسكري بحروب كبرى. ويرى أن ما لم يقدمه في وقت الخطر الكبير والوهن العسكري في سوريا، لن يقدمه وهو يشارف على قطف الثمار أكان من الوضع العسكري او من التفاهمات المحتملة بين إيران وأميركا.
- وهو على قناعة تامة بأن تصلّب ايران ضد أميركا سيؤدي في نهاية المطاف الى تنازلات أميركية للتفاوض وليس العكس وهذا يفيده.
ان وضع البلدين اذا يفترض، الاحتمالات التالية:
- اما استمرار الاختناق ، ما يعني ارتفاع النقمة الشعبية ضد القيادة السورية وحزب الله. وهذا ما سيُفرح كثيرين من أميركا الى اسرائيل الى دول عربية وأجنبية تناهض المحور الآخر. وهذا غير محتمل لوقت طويل لأنه قد يفجّر انتفاضات وتمرداً.
- وإما الاعتماد على روسيا وإيران في المفاوضات المحتملة مع جو بايدن، لكي تُحدث مناخات انفراج في المنطقة، فتُسهّل الحلول المقبولة وليس المأمولة. وهذا غير واضح المعالم بعد، وقد يكون معقدا.
- وإما تنزلق الأمور الى تصعيد عسكري، لكن هذا يفترض انهيار الأمل بالتفاوض الأيراني الأميركي، ورغبة روسية ايرانية بالضغط العسكري على الأميركيين في الساحتين السورية والعراقية. أو أنه يفترض مغامرة عدوانية اسرائيلية يُصار الى الرد عليها بشكل سريع وصاعق.
- وإما قلب السلوك بشكل جذري واستراتيجي مفصلي، بحيث تنجح موسكو في تطوير قناوات تفاوض، وتُنعش المفاوضات السورية الاسرائيلية التي ستشمل حكما كل الحدود من الجولان الى لبنان. هذا ممكن لكنه معقّد جدا كذلك.
الخلاصة :
لا ندري كيف ستكون اتجاهات الرياح مع إدارة أميركية تعيد تركيب الكثير من المشهد الاقليمي والدولي وتبدو عدوانية تجاه روسيا والصين وضبابية حيال ايران وحتما قاسية حيال سورية. لكن الأكيد أن على سورية ولبنان ، وتحديدا على القيادة السورية وحزب الله، الخروج من الدوّامة الحالية، بأي شكل من الأشكل، لأن إستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادي والاجتماعية في البلدين، قد يطيح بكل شيء مهما كانت الضوابط كبيرة.
صحيح أن الأطراف الأخرى مطالبة بالمساهمة في الحلول، لكن القيادة السورية والحزب هما في الواجهة. ولن يُفلح أي شيء في الدولتين ما لم يبدأ الوضع الاقتصادي بالحلحلة وتنفرج قليلا أحوال الناس ويتحسن سعر الليرتين السورية واللبنانية.
فإذا كان محور المقاومة والممانعة يجاهر منذ سنوات بقلب المعادلة وبأنه صد المحور الآخر. فعليه هو قبل غيره أن يقول للناس، من أين سيأكلون غدا، لأن الجوع لا يرحم ولأن القول بأن الحصار والعقوبات والمؤامرة هي السبب، ما عاد يلقى آذانا كثيرة تسمع، حتى ولو كان جزء كبير منه صحيح.
سوريا ولبنان بحاجة سريعة الى مبادرات داخلية كبيرة تفك شيئا من الحصار وتعيد الاستثمارات العربية ،وتؤسس لحل داخلي ولا تنتظر الخارج. لان الخارج يتقلب منذ سنوات طويلة بينما الناس يتقلبون على نيران الفقر والجوع واليأس.
نجح الطرف الآخر في فرض هذه المعادلة، وعلى دمشق والحزب ان يجترحا معادلة أخرى تقنع الناس. اذا كانت لديهما ، فعليهما قولها، واذا لا فان شعارات اخرى مثل التدويل وغيرها ستعود الى الواجهة وبقوة لانها ستسند الى غضب شعبي أوسع. بين أجمل خطاب عن النصر، وعلبة حليب للأطفال، سيختار اللبناني والسوري حاليا علبة الحليب.
خمس نجوم