«بقيوا يلّي بقيوا وهجّ يلّي هجّ»
لم يختر زياد الرحباني أن يكون موضوعاً دائماً للتحليل الإعلامي، ولم يختر أن يجعل من حياته مادّة خصبة للتنظير. لم يتعمّد ربما أن يكون فناناً «جدلياً»، كما يُقال لدى صعوبة تصنيف أحدهم في خانة. عبارة «مثير للجدل»، تكون المخْرَج اللغوي لوصف مَن يقدر على استفزاز الجميع، في أغلب الأوقات، من دون أن يقصد ذلك على الأرجح. وفي حالة زياد، يكون الاستفزاز نابعاً من صدق جارح، ومن سوء اختيار ــ جارح أيضاً ــ لمواعيد الصمت والكلام.
يقال إنّ زياد عصيّ على الفهم، كشخص وكفنان. يقال عنه أحياناً «عبقري»، وأحياناً «ملطوش»، ويستسهل بعضهم تشخيص حالاته النفسيّة بـ«الجنون» و«المرض»، ويسهل على آخرين اعتبار أيّ تصريح يصدر عنه، بشكل لا يتوافق مع المُنتظَر سماعه من هذا الطرف أو ذاك، «تخريفة تحت تأثير الكحول». كمّ الأفكار المسبقة المتداولة عن زياد، يفوق الأكاذيب المتداولة حول نجاحات الأدمغة اللبنانيّة في وكالة «ناسا». مثلاً، أصيب الرحباني نحو 19 ألف مرّة بالسرطان، وكاد يموت من تشمّع الكبد نحو 50 ألف مرّة. الجميع يصدّقون ذلك تقريباً. ولكن، حين يُصدِر زياد الرحباني بياناً، يعتذر فيه عن عدم المشاركة في حفلة، شارحاً بالتفصيل الحالة الطبيّة ليده، تسمع في الإعلام من يشكّك بتلك الرواية. ربما كان عليه، إرفاق البيان بتقرير من الطبّ الشرعي، للتأكيد. الجميع يعطي نفسه حقّ محاكمة زياد الرحباني بقسوة، طوال الوقت، ولا نقول هنا حقّ مناقشة أعماله أو أفكاره. هذا يريد تقمّص عباراته ونبرته ومشيته بكلّ ما أوتي من سماجة، وذلك يريد شيطنته ورجمه بكلّ ما أوتي من افتراء. تقاس المسافة من مواقفه وفقاً للـ«كاتالوغات» المعمّمة بفعل الاستقطاب السياسي الحادّ، بالرغم من أنّه لم يدّع يوماً قيادته لحزب أو ثورة، لكيّ يتمّ التعاطي معه على ذلك الأساس.
أليس بديهياً أنّ نقول إنّ زياد الرحباني، وجيله، عاشوا خيبات تفوق طاقتهم، وطاقتنا من بعدهم، على التحمّل؟ ألم يشيّدوا خيباتهم الشخصيّة والسياسيّة تلك، بإصرار كبير، حتّى ملّوا؟ أليس بديهياً أن نقول، إنّ تعب زياد أمر طبيعي، وإنّ حزنه مفهوم، وإنّ رغبته بالرحيل قد تكون أكثر خياراته صوابيّة إلى الآن؟ لماذا إذاً تلك الهستيريا على مواقع التواصل بعد إطلالته المقتضبة عبر قناة «الجديد» أمس الأوّل، حيث قال إنّه سيحمل حقيبته ويرحل؟ «بقيوا يلّي بقيوا وهجّ يلّي هجّ»، يقول طلال حيدر في قصيدة «خدني معك يا حبّ»، التي لحّنها زياد لفيلم «نهلة» (1979، فاروق بلّوفة). زياد لم يختر الرحيل، بل هجّ. تختصر قصيدة حيدر موقف زياد، سواء سمعناها بشعريّتها الصارخة، كتعبير عن حزن شفيف ممتدّ لعقود، أو جرّدناها ممّا تحمله من شجن، لتصير صورة لرجل على باب الستين يحاول إنقاذ ما تبقّى، لا أكثر.
أسئلة البحث عن العمر الضائع، عن الأيّام والأحلام الهاربة، الشعور الدائم بالخديعة كحقيقة مرّة وحيدة، تتردّد في أعمال زياد الرحباني منذ السبعينيات إلى اليوم. حمّلنا نحن، سخريته من تلك الخديعة، من تلك المؤامرة على الذات، من تلك المزحة الكبيرة، من ذلك الأمل الطالع من ملل. أن يهجّ زياد، دليل على اتساق كبير مع ذاته ومع منتجه الفنّي، وليس دليل تناقض. بعضهم يقول إنّه ذاهب إلى روسيا لأرشفة أعماله بالتعاون مع «روسيا اليوم»، ولإحياء حفلة أو أكثر في موسكو، وقد يعود. ما سبب كلّ هذه الجلبة إذاً؟ إنّه ذكّر بعلاقة غير نديّة بين «حزب الله» و«الحزب الشيوعي»؟ منذ متى لم يكن زياد الرحباني شيوعياً ماركسياً راديكالياً؟ هل عرفته الأمّة بطبعة أخرى؟
في تقريره عن زياد الرحباني بعنوان «59 بزيادة ــ زياد الرحباني: خرا ع هالجمهورية» ذكّر مراسل «الجديد» جاد غصن، بمقال للرحباني في «الأخبار» جاء فيه: «أنا عم جرّب آخدها بمزحة، لأن الناس ما قارييني إلاّ هيك». بالرغم من كلّ محاولاته، فشل زياد في إقناع الجماهير، أنّ هدفه في الحياة، ليس إضحاكهم. ساهم في تكريس سوء الفهم الطويل هذا، انقطاعه التام عن الظهور العام لسنوات، ثمّ إفراطه فجأة وبشراهة في إحياء الحفلات وإجراء المقابلات، ما جعل السياق خصباً لتأويلات مجّانية في أغلبها. ما يستحقّه هذا الموسيقي الحرفيّ الموسوعيّ، الذي منحنا بأعماله بعض العمق والجمال والحزن في عالم يغرق بالثرثرة، أن نمنحه الوقت ليتعب، وينسحب قليلاً…
صحيفة السفير اللبنانية