ذاكرة للأسف

إلى هؤلاء الرقاويين الجميلين: حمود، أبو آثار، والعجيلي

هذا النص، الذاكرة من عام 2006 شهر نيسان، حين كانت مدينة “الرقة” السورية هي – فعلاً- مدينة الرقة (بكسر الراء وتشديد القاف)، وليست مدينة الذبح والجلد. حين كانت مدينة “التفكير” لا “التكفير”، مدينة الأمسيات الشعرية والثقافية السلمية، لا مدينة الهجرة والخوف والعقوبات.
_______________________________________

الصحيح أن “العواصم” هي “ضواحي” المدن الصغيرة والأرياف.

العواصم… يتأكد الساكن فيها من ضخامتها وفراغها في آن معا، ففيها تجري الحياة السياسيه، ولكن لاسباسة فيها.والتجارة ولكن لانمو فيها.والصخب الليلي متوفر والطعام والشراب الغزير… ولكن لا ابتهاج فيها.

كأن القليل الصغير هو الجميل، لا الضخم الكبير ذو النتوءات والكهرباء في كل لوحة تعلن…كذباً جديداً. كأنما أجنحة الفقر، أو أحزمة الحرمان ليست لتسييج الطبقات، بل لتأكيد غربة الفقراء وعزلة ما لديهم من سخاء الابتعاد عن قلوب البشر، ومخططات المدن.
الأطراف والضواحي والمدن الصغيرة، بقليلها ونكهة حرمانها، تستطيع أن تكون دافئة القلب وقليلة الشكوى. فمقياسها ماهو لديها، وليس ما بوسعها أن تكون.

…………..

“الرقة” مدينة سورية، إحدى جارات النهر الآشوري… الفرات. لا يعرفها الغرباء، ولا يعرفها أبناء سورية أنفسهم. لديها من صفحات التاريخ ما يجعلها تتباهى على غيرها من المدن السورية.ولديها من الجغرافيا مايجعلها سلة غذاء بلد، من أقصاه إلى أقصاه، وفي ذاكرتها من الأسماء ما يكفي لموسوعة صغيرة صالحة للمؤرخ والروائي وعالِم الذكريات.

“الرقة” مدينة فلاحين، وبدو، وموظفي مياه، ورعاة عزلة. ليست جميلة ولكنها تخبىء سراً في مكان ما، وتختزن احتمالاً في مكان آخر. ليست مدينة العجيلي الروائي الطبيب الذي رحل، ولكنها أيضاً مدينة هارون الرشيد الذي أبقى في هندستها فكرته عن مدن مضادة للغزاة.
هي صحراء زراعة ، وخبيرة في مخالفة الزراعة المنصوص عنها في أوامر المحافظين، وتعاليم اتحاد الفلاحين، وموظفي توزيع البذار في الجمعيات. ظلّت تساير ما يريده منها قدرها، كمدينة، تنمو بين الماء والظمأ . إذ كيف يمكن أن تكون أزمنة الفيضان الغاشم لنهر الفرات المجيد، أفضل من أزمنة النظام الصارم لسد الفرات العظيم؟!

حين تغدو البلاد أقل وفرة والزارعون أقل سنبلة… ينبغي على مهندس العمارة أن يفكر بما تفعله، في مكان ما، هندسة الخراب.
في مهرجان الشعر السنوي الذي تقيمه هذه المدينة محاولة مدينة لأفراد يجمعون هنا وهناك تكاليف برنامجهم لأيام الثقافة. ويروجون لبساطتهم في تعاطي الشعر، وامتحانات الصداقة، وتقاليد الضيافة.

قد لا يكون مهماً بالنسبة لمن أعطى القصيدة وجبة من “كباب” أن تكون القصيدة قد اشتركت في نمو المراعي وغذّت خراف الوليمة. وقد لا يكون الشعراء شيئاً أكثر من مرور العابرين على آذان من تعودوا “رباباً ” في مضافة.

لكن أيام الثقافة، شعراً أو سواه، لا تعبر هكذا: ثمة من يوثقها كتاباً، وذاكرة، وحديثاً لاحقاً .

وحين نمضي نتذكر أن سداً عظيماً خلق بحيرة عظمى ، وانشأ مدينة لمبدعي السد (الطبقه) من عمال ومهندسين …لم يؤسس حياة جديدة توازي مايفعله الماء .

الضواحي تظل تتذكر ماءها الاصلي في ثقافتها …الأنهار.

الناس لهم ….. ذاكرة الماء !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى