إسرائيل تُخطئ في الحساب: إيران ماضية في المواجهة البحرية

 

أخطأت حسابات إسرائيل في ما يتّصل بالمواجهة البحرية مع إيران. ظَنّ صنّاع القرار في تل أبيب أن استهداف إحدى السفن الإيرانية قبل أسبوعين سيكون كفيلاً بكبح جماح طهران، ومنْعها من الردّ بالمثل. لكن ما حدث هو العكس تماماً. إذ أظهر تطوُّر الأحداث لاحقاً أن الإيرانيين لن يتردّدوا في منع أيّ إخلال بتوازُن الردع القائم بينهم وبين كيان العدوّ. ومن هنا، يبدو أن الأخير يعكف على إعادة قراءة المشهد، في ظلّ دعوات إلى تحديث تقدير الجدوى الاستراتيجية لسياسة الاستهداف البحري، في مقابل المخاطر العملياتية والقانونية والاقتصادية

لم يكن تحذير مصادر في الأجهزة الأمنية في كيان العدو من استمرار تعرُّض السفن الإسرائيلية للضرب إن استمرّ استهداف السفن الإيرانية، إلا ترجمة للرسائل التي انطوت عليها حادثة تعرُّض سفينة الحاويات، «لوري»، في بحر العرب، لهجوم، وتأكيداً أن تلك الرسائل وصلت بحذافيرها إلى الجهات المختصّة في تل أبيب. كذلك، لم يكن مردّ وصْف مراقبين إسرائيليين الحادثة بـ»الخطيرة»، أنها عرَّضت السفينة التابعة لشركة «تسيم» الإسرائيلية وحمولتها للخطر، إذ هم يدركون أن ما حصل كان مدروساً ومضبوطاً وهادفاً في مكانه وحجمه وأسلوبه وتوقيته ونتائجه، وإنما المؤشّرات المدوّية التي ولّدتها الحادثة لدى جهات التقدير والقرار.

مثّلت الواقعة، التي تُعدّ الثانية خلال نحو شهر، مؤشّراً كاشفاً إلى السيناريوات التي تنتظر الإسرائيليين في الساحة البحرية إن هم أصرّوا على مواصلة اعتداءاتهم فيها، وأيضاً إلى حجم المخاطر التي تنطوي عليها الخيارات الحاضرة على طاولة أصحاب القرار السياسي والأمني في الكيان العبري، وكذلك النتيجة التي ستترتّب على تصميم إيران على الردّ بالمثل، بحسب التفسير الإسرائيلي لاستهداف «لوري»، وخصوصاً مع إدراك تل أبيب محدودية هامشها في المبادرة والردّ، من دون تلقّي أثمان مؤلمة قد تأخذ لاحقاً منحى تصاعدياً.

على الخلفية نفسها، لم يكن الاتهام الإسرائيلي الفوري لإيران بالمسؤولية عن استهداف السفينة نابعاً فقط من أن الحادثة وقعت في منطقة جغرافية قريبة نسبياً من الشواطئ الإيرانية، بل أيضاً بالنظر إلى أن تل أبيب سبق أن تباهت، عبر تقارير غربية، باستهدافها لأكثر من سفينة إيرانية كانت تنقل النفط إلى سوريا. فوفق فرضية صحّة رواية العدو واتهاماته، جاءت حوادث استهداف السفن الإسرائيلية في سياق الردّ على عمليات بادرت إليها إسرائيل ابتداءً، لمنع وصول النفط من إيران إلى سوريا، وإن كان الطرفان لا يزالان حريصَين على توجيه رسائلهما العملياتية بشكل مضبوط ومدروس، تفادياً للتدحُرج نحو مستوى أشدّ خطورة من التصعيد.

وبالإمكان التقدير أن استهداف السفينة الإسرائيلية الثانية لم يكن أقلّ انطواءً على عنصر المفاجأة من الاستهداف الأوّل قبل نحو شهر؛ فالأوّل كان مفاجئاً بالنظر إلى أنه غير مسبوق، كما لم تحضر أيّ مؤشّرات إليه لدى جهات التقدير والقرار في تل أبيب؛ فيما الثاني يتعارض مع افتراض الإسرائيليين أن إظهار تصميمهم على مواصلة اعتداءاتهم البحرية، وترجمتَه عملياً قبل أسبوعين في البحر المتوسّط عندما تعرّضت إحدى السفن الإيرانية لحادث أمني محدود، أوصلا رسالة إلى مَن يعنيهم الأمر بأنهم عازمون على فرض هامش واسع في الاستهداف العسكري البحري، وأن مواصلة الردّ على اعتداءاتهم ستؤدي إلى رفع منسوب المخاطر، على أمل أن يساهم ذلك في ارتداع «العدو» عن هذا الخيار.

لكن الذي حصل، عملياً، أن استهداف سفينة الحاويات قبل أيّام بدَّد ــــ حتى الآن ــــ الرهانات الإسرائيلية على إنتاج معادلة ردع بحري تُطلق يد تل أبيب في الاعتداء من موقع الابتداء والردّ، وأعاد الرسائل الردعية عينها إلى المؤسّسات السياسية والأمنية العبرية. وهو ما حضر على لسان مصدر في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، قال لقناة «كان» في التلفزيون الإسرائيلي، إن الرسالة الإيرانية المُوجّهة إلى الكيان العبري هي «أننا لن نسمح لإسرائيل بخوض هذه المعركة البحرية، فعندما تهاجم إسرائيل سفننا نحن سنهاجم سفنها». يعني ذلك أن مُواصلة استهداف السفن الإيرانية سيُعرّض السفن الإسرائيلية لمزيد من المخاطر، وأن الارتقاء في الاعتداءات سيُقابَل بالمثل، وسيؤدي إلى فتح جبهة بحرية بين الطرفين، إلى جانب ما هو قائم من معادلات تَحكم قواعد الصراع والمواجهة على أكثر من ساحة، الأمر الذي لّمح إليه رئيس «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، اللواء عاموس يادلين، بالقول «من الواضح أن إيران قرّرت الانتقام من إسرائيل على هجماتها في الساحة البحرية، في عملية تستهدف جبي ثمن، وبشكل أساسي توجيه رسالة بأن إيران لن تُسلّم بالهجمات على سفنها، وأن لديها القدرة على الإضرار بإسرائيل في هذا المجال».

ينطوي هذا التوصيف، أيضاً، بشكل ضمني، على إقرار بأن طهران، بحسب الاتهام الإسرائيلي، تُعبِّر عن إرادتها في تفعيل ما تملكه من قدرات، وأن على تل أبيب أن تدرس خياراتها في ضوء تقديرها لتطوُّر ذلك المسار وانتقاله إلى مرحلة تصعيد أعلى، ولحجم المخاطر التي ستتعرّض لها من البوّابة البحرية. وتحضر، في السياق المتقدّم، تقارير إسرائيلية سابقة تناولت أهمّية الساحة البحرية، وأكدت وجود حوالى 300 سفينة بملكية إسرائيلية في العالم، يمكن أن يؤدي استهدافها إلى ضرر بالغ بالاقتصاد الإسرائيلي، فضلاً عن أن 90% من واردات إسرائيل وصادراتها تجري عبر البحر، وأن 12% من هذه العمليّات، أي قرابة 15 مليار دولار، تمرّ في مضيق باب المندب.

من المؤكد أن تلك المعطيات سوف تحضر في خلفية تقدير قادة العدو، الذين يعكفون على تقويم جدوى الاستمرار في سياسة الاستهداف البحري، وما يمكن أن يترتّب عليها من مخاطر إذا أخذت منحًى تصاعدياً. وبحسب تقدير مسؤولين رفيعي المستوى في سلاح البحرية الإسرائيلية، فإن إيران طوّرت قدرات صاروخية وعسكرية تتيح لها تهديد السفن البحرية على أمداء كبيرة، من البرّ. في ضوء ذلك، يصبح الردّ الذي تعرّضت له السفينتان الإسرائيليتان مؤشّراً إلى الأثمان الإضافية التي ستدفعها تل أبيب إذا واصلت وصعّدت استهداف السفن الإيرانية، وتأكيداً لكون إسرائيل مكشوفة أمام أيّ سياسة استهداف مضادّ ردّاً على استمرار اعتداءاتها البحرية، وفق ما أقرّ به، أيضاً، يادلين الذي شدَّد على ضرورة أن تدرس إسرائيل استمرار سياستها العملياتية في الساحة البحرية، في ضوء تحديث تقديرها للجدوى الاستراتيجية في مقابل المخاطر العملياتية والقانونية والاقتصادية.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى