اتركوه خارج «ربيعكم»
بعد مرور ذكرى رحيله الـ 11 قبل اسبوع، لا يمكننا تجاهل سؤال: ما الذي كان يمكن أن يفعله اليوم؟ «لا أحد يعلم». إلا أنّ نابشيه لم يدركوا هذه النقطة، لقد نبشوا إدوارد الكاره لمعظم الأنظمة العربية وأغفلوا معارضته الصارمة للمركزية الأوروبية، والأمركة، والغزو، والزيف بأشكاله.
ليس ثمة سبب محدّد للمحاولات الكثيرة التي جرت منذ بداية «الربيع العربي» لنبش إدوارد سعيد (1935 ــ 2003)، وإلباسه مواقع ومواقف ليست له. استهوى «الربيع العربي» معظم الأقلام التي كانت، على مدى طويل، مهتمّة بالمنطقة العربية وهمومها، إيجاباً وسلباً، لتصبح «ثورة الياسمين» التونسية الموضوع الأثير خلال عامي 2010 ـــ2011، تلتها الانتفاضة المصرية، ليتناقص الاهتمام تدريجاً بالتزامن مع الأحداث الليبية والسورية. كان يتم تصوير الانتفاضات العربية في معظم الكتابات، كأنها «ربيع براغ» آخر، وهنا كان مقتل تلك الكتابات التي عجزت ــ على أهميتها ــ عن التقاط التمايز بين أوروبا الشرقية والمنطقة العربية، إذ هو «الشرق» في نهاية المطاف، بحسب تفكيرهم، وستكون المقاربات، بالضرورة، منطبقة على المنطقة بأسرها، بدرجات متعددة.
وبسبب هذه الكتابات القاصرة، تنامت الحاجة إلى كتابة مغايرة، وهنا بدأ استحضار الأسماء الكبيرة، مثل نوام تشومسكي، طارق علي، سلافوي جيجك، وسمير أمين على اختلاف وجهات نظرهم.
ليس هذا هو السبب الأوحد، بكل تأكيد. كان ثمة سبب آخر أكثر جوهرية؛ فالنظرة المدقّقة للمعارضات قبل الأنظمة، لا تدع أمامنا إلا سبباً وحيداً، يعبّر عنه المثل الشعبيّ بدقّة «القرعاء تتباهى بشعر ابنة خالتها».
لم تستطع المعارضات خلال أربع سنوات إنتاج مثقّف لها، وبدت النتيجة مخيّبة للآمال دوماً، إذ انحصر الأمر بين «المُخبر» و«العميل» (لو استخدمنا تعبير حميد دباشي) في معظم الأحيان، في طيف واسع يبدأ بالعمالة الصريحة، وصولاً إلى مثقّفي التكتّلات السياسية، ليتم ترك فسحة صغيرة لمثقّفي «ما قبل – الربيع»، ليكونوا، في أفضل الأحوال، «مثقّفين أداتيّين»، ارتضوا لعب دور الأداة، وجعلوا الثقافة تابعةً للسياسة، فنسفوا ما كان لهم من إنجازات. لذا كان لا بد من إدوارد سعيد. فإدوارد «عربيّ مهم»، وسيكون هو الرد الحاسم على مُنْكري الانتفاضات في الزمن العربي الجديد، كما أنه مثقف «كوسموبوليتي» يتلاءم مع الموضة الجديدة لتحطيم الهويات الوطنية.
لكن مشكلة محاولة إحياء فرادة إدوارد تمثّلت في كونها محاولةً منقوصة، لأنها نبشت جانباً واحداً من إدوارد، مع إغفال الجانب الآخر الأكثر أهمية. تعدد الهويات عنده سمة خاصة به، ولا يصح جعلها سمة عربية عامة، كما جرى منذ سنوات مع جعل فرادة عبد الرحمن منيف حالة عامة أيضاً. كلا الرجلين ــ برغم خصوصية حياتيهما ــ عملا دوماً على تأكيد أهمية وجود هوية متمايزة، وطنية بالضرورة، وأن تكون «الهويات الأخرى» أصداء لها. لا معنى بعد اليوم، وبعد الانتفاضات، لضبابية الهوية الوطنية، أو تعمية الجغرافيا، أكان ذلك في الكتابة أم في الواقع، لأن «شرق المتوسط» لم يعد شرقاً واحداً متماثل السمات. لذا سنكون أمام حلين حاسمين: إما تعميم السمات المشتركة لتكون أساساً لـ«عقد اجتماعي جديد» لجميع سكّان المنطقة بالتساوي، أو أن تغرق جميع الجماعات في جحيم «الفرادة» و«التمايز» و«الاختلاف».
لم يدرك نابشو إدوارد سعيد هذه النقطة، بل إنهم ضاعفوا خطيئتهم عندما نبشوا جانباً سياسياً واحداً منه، وأهملوا الجانب الآخر. نبشوا إدوارد الكاره لمعظم الأنظمة العربية على اختلاف توجّهاتها، وأغفلوا إدوارد المعارض الصارم للمركزية الأوروبية، والأمركة، والغزو، والزيف بأشكاله. لذا، لن يكون أمراً غريباً أنّ أكثر المحتفين بتراث إدوارد سعيد هي الأنظمة الأكثر تخلفاً، والجماعات الأكثر تطرفاً، والشخصيات الأكثر «اعتدالاً» بحسب مفهوم الاعتدال العقلاني الجديد.
بطبيعة الحال، ليس هذا المقال موجّهاً لنسف تلك المحاولات، بهدف تكريس محاولة مختلفة. كما أنه ليس مقدّمة لإعادة قراءة النتاج السعيديّ، برغم أهمية هذه المهمة وإلحاحها. المطلوب هنا هو تبيان أسباب عدم إمكانية إحياء إدوارد سعيد ليتناغم مع أيّ طرف من الأطراف. السبب الأول شديد الوضوح، وهو أنّ إدوارد توفي منذ 11 عاماً، والرجل ليس موجوداً ليدعم أو يعارض من يقوّله ما لم يقله، كما أن دائرة مريديه من العرب، أقصت نفسها عن المشهد، وركن معظمهم إلى الصمت كحل أمثل في ظل التخبّط والفوضى. السبب الآخر هو تاريخ وفاته. توفي إدوارد عام 2003، بعد أشهر من احتلال بغداد، وسقوط نظام صدام حسين. وبالتالي، هو لم يشهد العقد التالي الذي يمكن اعتباره العقد الأخطر في تاريخ المنطقة 2003 ــ 2013، أو في موازاة خطورة العقد 1915ــ 1925. في هذا العقد، شهدنا تحوّلات جغرافية، سياسية، اقتصادية، واجتماعية هائلة، جعلت الحنين إلى زمن «سايكس – بيكو»، بل زمن الانتدابات، أمراً «مشروعاً».
كان المشهد الثقافي هو الأكثر تغيّراً. برزت قوى جديدة وأطاحت القوى القائمة. انتصرت دول الخليج بتمويلاتها الهائلة، وضَعُف، أو تلاشى دور الدولة الوطنية كحامل للثقافة. انتهى ــ أو كاد ــ دور «المثقف العموميّ» ليتكرّس «مثقف الإن. جي. أوز». تبخّرت الدولة، وبرزت «الثورة» كاستبداد جديد أشد قسوة. ماتت الوطنية، وولدت «السوبر- وطنيّة». غابت المواطَنة، وحضرت الطائفة والعِرق والمذهب. غابت الهوية الوطنية وبدأ زمن «الاختلاف الهويّاتيّ». انتهى الزمن القديم، وولد زمن جديد.
ما الذي كان يمكن أن يفعله إدوارد؟ لن نقع في فخ إنطاق الرجل، بل سنكتفي بإجابة أكيدة: «لا أحد يعلم». في كل هذه التحولات التي سعت ــ بدرجة كبيرة ــ إلى تدمير ما تبقّى من اليسار (كحامل للقوى الوطنية التقدمية العلمانيّة) أكان على يد الاستبداد القديم أو الجديد، أم حتى على أيدي من كانوا يساريّين في زمن مضى، لن يكون ممكناً التنبّؤ بمواقف أحد، حتى لو كان إدوارد سعيد. ربما كان صارماً تجاه إسرائيل، لكنه لم يعتبرها عدواً؛ كان ضدها ككيان وكـ«دولة» قائمة، مع وجوب الاعتراف بوجودها قبل نقدها، بل بتكريس وجودها ضمن «شروط أخرى» لا تُجدي معها وسائل المقاطعة «الظالمة». وربما كان أكثر صرامة تجاه الأنظمة العربية، لكنه كان قريباً من ياسر عرفات في السنوات الأولى لتحوّلات عرفات قبل أوسلو، حيث كانت تلك السنوات هي الجذر الفعلي لفساد الطبقة الحاكمة الفلسطينية اليوم، عدا مهادنته الصامتة لأنظمة أكثر اهتراءً. ربما كان داعماً للمقاومة، لكنه كان يفضّل المقاومة اللاعنفيّة التي تجعل لـ«العدالة» معنى في زمن الميديا. لا أحد يعلم ما الموقف الدقيق الذي كان سيتبنّاه.
وكذلك، ما معنى إلباس إدوارد ثوبه «الجديد»، مع أن أعماله لم تُترجَم إلى العربيّة بعد؟ في ظل الموجة الجديدة لـ«باحثي الربيع العربي» الذين يتعثّرون حتى في لغتهم الأم، سندرك بأن معرفتهم بأعماله كانت إما عن طريق «السَّماع»، كما وردنا الشعر الجاهلي، أو عن طريق الترجمات الكارثيّة التي قدّمته للقارئ العربي (لا بد هنا من استثناء الترجمات الممتازة لأعمال إدوارد سعيد الأخيرة). لم يقرأ «المثقّفون الجدد» إدوارد سعيد، بل قرأوا صورة إدوارد كما نقلها كمال أبو ديب، أو محمد عناني (إن اكتفينا بذكر مترجمَيْ عمليه الأكثر حضوراً «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية»). أما أعماله الأخرى فقد لاقت تشويهاً وتحويراً، أو بقيت أسيرة لغتها الإنكليزية، وبخاصة عمله المهم «بدايات». وكذلك، لا يمكن لقارئ إدوارد أن يفهمه على نحو كافٍ إلا إذا كان على اطّلاع على أعمال مرجعَيْه الأثيرين أنتونيو غرامشي، وفالتر بنيامين، وهما أيضاً لا يزالان محصورين في خانة «السماع»، أو القراءات العابرة لأفكارٍ منقوصة أو مختزلة.
ربما كانت مصادفةً أن معظم صور إدوارد سعيد في سنواته الأخيرة قبل زلزال الغزو الأميركي للعراق عام 2003 كانت بالأبيض والأسود. الصور الملوّنة نادرة، بل إن إدوارد يبدو أكثر شحوباً بالألوان. ربما كان لتزامن هذه الفترة مع اشتداد وطأة المرض سببٌ في ذلك، أو لعل إدوارد كان مستاءً من أن ترتبط سنواته الأخيرة بعصر «الثورات الملوّنة»، فرحل. حسناً فعل حين رحل باكراً، مكتفياً بترك حياة بالأبيض والأسود، كأصابع البيانو، وصورة ملوّنة صارخة تكسر كل الألوان الزائفة الأخرى، يحمل فيها حجراً ويسدّده إلى الجهة الصحيحة.
صحيفة الأخبار اللبنانية