بن سلمان: ثورة من فوق، وورقة صفراء لأميركا
يُحرّك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع كل إطلالة تلفزيونية مياه كثيرة راكدة، ويستمر في خروجه عن مألوف الخطابات الملكية والأميرية، في سياق إصلاحي يقارب ” الثورة من فوق” في مجالات الدين والنفط والإقتصاد والرؤية للمستقبل. وقد تقدّم خطوات إضافية لافتة في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، داخليا، في ما يتعلق بخطط الإقتصاد والنمو والاستثمارات والسكن والبطالة، لكن أيضا وخصوصا في النظرة الى التاريخ الوهّابي، وفي انتقاد إجتهادات دينية خاطئة فرضت نفسها على القوانين، وخارجيا حيال ترطيب الأجواء مع إيران، والسعي لإغراء الحوثيين، ورفع بطاقة صفراء في وجه أميركا، رافضا التدخل في شؤون الدول ومذكّرا بأن واشنطن التي تبقى حليفا استراتيجيا لبلاده، ما عادت وحدها زعيمة العالم وإن للسعودية الآن شركاء آخرين من روسيا والصين والهند الى الإتحاد الأوروبي
في التوقيت والشكل والمضمون، كانت مقابلة ولي العهد والذي يتولى أيضا منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، مقصودة، بعد كل الأسئلة التي أثارتها تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن حيال الخليج منذ وصوله الى السلطة، وفي لحظة إستئناف التفاوض حول برنامج إيران النووي، وفي أوج البحث عن مخارج لحرب اليمن.
دعونا نلقي نظرة أولا على المقابلة من خلال التحليل الكمّي، الذي يكشف لنا من خلال تعدد الكلمات أبرز الأهداف.
المُفردة ومشتقاتها | عدد مرّات تردّدها |
سعودية | 64 مرة |
إستثمار | 44 مرة |
نفط | 40 مرة |
2030 | 27 مرة |
دين | 36 مرة |
رؤية | 22 مرة |
قرآن | 17 مرة |
مستقبل | 15 مرة |
بطالة | 11 مرة |
تطرف | 10 مرات |
مشاريع | 8 مرات |
إيران | 7 مرات |
الولايات المتحدة | 12 مرة |
الصين | 5 مرات |
حوثي | 5 مرات |
نُلاحظ من خلال تردّد المفردات، أن الداخل هو الهمّ الأول والهدف الأسمى للأمير محمد، وأن الخارج يأتي في المرتبة الثانية، ما يُشير الى أن ولي العهد مُدركٌ أنه لو حصّن الداخل وإستمر في جذب القطاعات الشابة التي تُشكل عصب المجتمع وأمله، فإن الخارج سيعود إليه بدلا من ممارسة ضغوط عديمة الفائدة. وهذه فكرة ثابتة في إستراتيجيته منذ توليه منصب ولاية العهد، وفي طريق توليه العرش. هو يثبت أقدامه في الداخل ليكون الخيار الوحيد لهذا العرش مهما كبرت الضغوط.
المُلاحظة الثانية، أنه يُراهن على المستقبل الإقتصادي للمملكة، فهو يُذكّر في المقابلة أن الحاجة الى النفط السعودي لن تنتفي وان الطلب على النفط العالمي سيزداد حتى العام 2040 خلافا لكل التوقعات، لذلك فان المملكة ستحتفظ وتطوّر هذه الثروة التي ستبقى بينما تختفي ثروات مماثلة بما فيها تلك الموجودة في الولايات المتحدة. يقول الأمير :” الولايات المتحدة لن تكون دولة منتجة للنفط بعد 10 سنوات… وسيكون على عاتق السعودية في المستقبل زيادة انتاجها لتقدير الطلب على النفط ” لكن النفط لن يكون السلعة الوحيدة في المستقبل بل ثمة سعي حثيث لتطوير قطاعات مرادفة.
في هذا الصدد نجد أن رؤية 2030 حاضرة بقوة، ولو أضفنا اليها مفردتي استثمارات ومستقبل، يصل تردد كلماتها الى أكثر من 81 مرة، بينما النفط يتردد 40 مرة .
مسائل تعزيز الإسكان ( 4 ملايين وحدة سكينة للسنوات العشر القادمة) وخفض البطالة ( الى أقل من 7 بالمئة) وإيجاد فرص عمل أكبر والصناديق الإستثمارية، أخذت حيزا كبيرا من مقابلة الأمير محمد،وهذا دليل على حضور الشأن الداخلي أكثر من غيره. هو لم يتحدث عن أوهام أو مجرد وعود رنّانة كما يفعل عادة القادة العرب بمن فيهم بعضٌ ممن مر على قيادة السعودية نفسها، وإنما يذّكر -ومدعوما بالارقام- بما تحقق حتى الآن خصوصا في مجالات السكن وتخفيض البطالة والاستثمارات ( مثلا الاستثمارات الأجنبية تضاعفت 3 مرات، والإيرادات النفطية ارتفعت من 166 مليارا الى 350 مليار ريال سعودي )رغم جائحة كورونا. وهو في كل ذلك لا يحمّل التعقيدات الإدارية السابقة جزءا كبيرا من المسؤولية. ويصل به الأمر الى توجيه انتقادات شديدة للوزراء السابقين بقوله :” كان عام 2015 صعبا للغاية، ولديك 80 بالمئة من الوزراء غير أكفاء ولا أعينهم حتى في أصغر شركة صندوق استثمارات ” .
كذلك كانت مشاريع البيئة والتشجير وإيصال 10 جامعات سعودية بدلا من 5 فقط الآن الى لائحة ال 500 جامعة عالمية ، حاضرة في المقابلة.
الدين وعبد الوهاب .
بعد أن قال محمد بن سلمان، في منتدى مبادرة مستقبل الإستمار في السعودية في العام 2017: ” لن نضيّع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرّفة، سوف ندمرهم اليوم وفورا”، وكان طبعا يتحدث عن المتطرفين والمغالين في الدين، كرّر ذلك في المقابلة الحالية وقال : ” إن التطرف في كل شيء غير جائز والرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في أحد الأحاديث أن يوم من الأيام سوف يخرج من يتطرف إذا خرجوا اقتلوهم”
تردد مفردات ” القرآن ” و ” الدين ” و” االتطرف ” كان بمعدل 63 مرة ، ما يشير الى أن هذا الأمر يشغل أيضا فكر ولي العهد، لكن اللافت أنه عاد يُفصّل المسألة الاسلامية وضرورة الالتزام بالقرآن والسنة والأحاديث النبوية (مميزا بين 3 أنواع من الأحاديث وضرورة اعتماد ما هو موثوق منها) ، ثم دخل هذه المرة الى فكرة الوهّابية، وذلك بما لم يجروء على قوله أيٌّ من أسلافه، فقال : ” متى ما ألزمنا أنفسنا بمدرسة معينة أو بعالِم معين معناه ألّهنا البشر، الله سبحانه وتعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع بينه وبين الناس حجابا، أنزل القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم طبقه على الأرض والاجتهاد مفتوح للأبد، والشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ لو خرج من قبره ووجدنا نلتزم بنصوصه ونغلق عقولنا للاجتهاد ونؤلهه أو نضخمه لعارض هذا الشيء فلا توجد مدرسة ثابتة ولا يوجد شخص ثابت، القرآن والاجتهاد مستمران فيه وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاجتهاد مستمران فيه وكل فتاوى حسب كل زمان ومكان”
لكن المُلاحظ هنا أن الأمير محمد أدخل أيضا المشروع العربي لسبعينيات القرن الماضي في سياق التطرف قائلا : “إن المشروع العربي والاشتراكية والشيوعية وغيرها من مشاريع في المنطقة أعطت ( في سبعينيات القرن الماضي ) فرصة لكثير من الجماعات المتطرفة”
أميركا والورقة الصفراء :
خلافا للتحليلات التي قالت إن الأمير محمد بن سلمان أراد من مقابلته بعث رسالة ود الى الإدارة الأميركية الجديدة، فإن تحليل خطابه، يُشير الى أنه أراد رفع ورقة صفراء في وجه بايدن، فهو اذ أكد على استراتيجية العلاقة مع واشنطن وعلى أن الإتفاق معها هو على 90 بالمئة بينما التباين لا يتعدى 10 بالمئة وهذا طبيعي حتى في العلاقات مع الجوار الخليجي، الّا أنه قال التالي ايضا في مجال التحذير :
- “لك أن تتخيل لو العشرة ملايين برميل نفط رخيص من تكلفة الإنتاج من ثلاثة لستة دولارات ذهب عقدها الى بريطانيا، فلن تكون أميركا في وضعها الحالي” ( أي أنه لولا النفط السعودي لما انتعشت أميركا، وأن أميركا والسعودية بالتالي تفيدان من هذه العلاقة وليس فقط السعودية )
- “الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون دولة منتجة للنفط بعد عشر سنوات “( أي أنها ستحتاج دائما للنفط السعودي خلافا لما يقال )
- “إن المملكة لن تقبل أي ضغط أو تدخّل في شأنها الداخلي” وهذا الكلام موجه في جانب كبير منه الى واشنطن.
- “الولايات المتحدة كانت في الخمسينات تشكل خمسين بالمئة من اقتصاد العالم، اليوم حجم الاقتصاد الأمريكي يشكل عشرين بالمئة” أي أن دورها يتضاءل وهو ما يبرر تذكير الأمير بالتحالف الاستراتيجي أيضا مع الصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي وغيره. ما يعني أن السعودية لن تعتمد من اليوم فصاعدا على أحادية الحليف الأميركي وإنما ستوسع هذا الإطار الى دول أخرى .
إيران والحوثيون :
في الموضع الإيراني، صحيح أن الأمير ذكّر بأن الخلاف مع طهران يتعلق بـ ” تصرفاتها السلبية ودعمها لميليشيات خارجة عن القانون وبسبب برنامج الصواريخ الباليستي” لكن كلامه عنها كان مخفّفا هذه المرة ، فهي ” دولة جارة ، ونريدها مزدهرة ، ولا نريدها في وضع صعب ” وان العمل جارٍ مع شركاء آخرين لايجاد حلول والعودة الى ” علاقة طيبة وأيجابية وفيها منفعة للجميع ” .
هذا الكلام يستند أيضا الى سلسلة من اللقاءات البعيدة عن الأضواء والتي لعب فيها العراق مؤخرا دورا ايجابيا بين طهران والرياض.
وقد لوحظ أن حديث الأمير عن اليمن والحوثيين لم يُشر بالإتهامات السابقة نفسها الى دور إيران، مكتفيا بالقول :” اعتقد ان الحوثي لا شك لديه علاقة قوية بالنظام الإيراني، لكنه في الأخير يمني ولديه نزعته العروبية واليمنية ” داعيا الحوثيين للجلوس الى طاولة التفاوض مع جميع الأقطاب اليمنية بغية الوصول الى حلول تكفل حقوق الجميع في اليمن وتضمن مصالح دول المنطقة.
بإختصار يُمكن القول، إن الأمير محمد بن سلمان، قدّم تصورا مُغريا للداخل السعودي مُكملا بثلك ” ثورته من فوق ” والتي جنّبت لا شك السعودية دخول الربيع العربي أو تمدد تيار الأخوان المسلمين أو قلاقل داخلية، وأراد هذه المرة، أن يوجه رسائل تهدئة الى الخارج، تنسجم مع مناخات الحوار التي عادت الى الانفتاح دوليا واقليميا مع إيران وتركيا.
بدا الأمير مُلمّا تماما بملفات الداخل، ارقاما واحصائيات وواثقا مما يقول ، يساعده في ذلك النمو الواضح في عدد لا بأس به من القطاعات الاقتصادية والإستثمارية. وهو لو نجح في إطفاء بؤر الخارج التي أثرت سلبا على السعودية خصوصا بعد مقتل جمال خاشقجي ومآسي حرب اليمن التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها أسواء كارثة أنسانية في هذا العصر، فلا شك أنه يستطيع مبادلة الضغط الأميركي بضغط مماثل يستند الى شعبيته الشبابية الواسعة في الداخل.