الخوف المتبادل بين الإسلام والغرب
إن الغرب كما نفهمه لا يشكل كُلاّ موحدا ومتجانسا، بل كلا مُجزّءا ومتنوعا. لذلك فإن شكّنا الفلسفي موجه إلى الغرب الإيديولوجي لا الحضاري، وتوجّسنا الوجودي موجه إلى الغرب الاستعماري لا الإنساني. فالغرب الأول (غربُ لورا فاليري، وزيغريد هونكه، وهانس كونغ، وفان كونينسفيلد، وجون إسبوزيتو، وكارن أرمسترونغ، وإنجمار كارسلون، وروجي غارودي وغيرهم كثير) تفاعل مع حقيقة الإسلام فاعترف بسماحته النادرة، أما الغرب الثاني (غربُ صموئيل هنتينغتون، وبرنارد لويس، ومارتن كريمر، وخيرت فيلدرز، وأوريانا فلاشي، وأيان هرشي علي وغيرهم كثير) فقد تعامل مع الإسلام بعقلية الحروب الصليبية لا بعقلية التنوير، فاستحال الإخاء عداء، والمساواة عنصرية، والحرية اضطهادا!
بعد أكثر من عقدين من البحث الفكري الأكاديمي والانشغال الإعلامي والصحافي بثنائية الإسلام والغرب في مناسبات ولقاءات متنوعة وعبر كتابات وإصدارات متعددة، ُتسنح لي اليوم الفرصة لأن أصوغ جمهرة من الأفكار حول قضية تؤرق الجميع، وهي ظاهرة الإسلاموفوبيا التي حُبّرت عنها الآلاف من الدراسات والبحوث والمقالات والأوراق في زمن قياسي. والغرض الجوهري من هذا العمل ليس توصيف هذه المسألة والقيام بجرد عام لمظاهرها ونوازلها، لأن فيما ألفه السابقون من كتب ومقالات وتقارير الكفاية، بل الغرض هو نسج مقاربة مغايرة نوعا ما تهدف إلى تفكيك ظاهرة الإسلاموفوبيا والتنقيب في جذورها النفسية والواقعية، ثم التشكيك في كون الخوف أحادي الاتجاه من الإسلام فقط كما يُروّجُ في الأدبيات السياسية والإعلامية المؤدلجة، بل متبادل بين الإسلام والغرب بشهادات ورؤى عدد من الفلاسفة والخبراء والباحثين الغربيين التي تعضّد فرضية هذا الكتاب. ولا نكتفي بهذا الجانب، بقدر ما نتعمّق أيضا في البدائل الممكنة أو الطرائق المسعفة على تبديد أسطورة الخوف هذه.
إن الهدف الجوهري، إذن، من تأليف هذا الكتاب هو مقاربة ظاهرة الإسلاموفوبيا عبر تفكيك جملة من المفاهيم المتقاطعة معها وإعادة تركيبها بما يقتضيه السياق السوسيو- ثقافي والإبستيمولوجي الجديد، لأن التحولات المتسارعة التي شهدها الربع قرن الأخير لم تعد تتعلق بالبنية الاجتماعية فقط، بقدر ما تجاوزتها إلى البنى المعرفية والفكرية والبيداغوجية. كما أن مرحلة التعددية التي ولجتها المجتمعات الإنسانية المتقدمة أسفرت عن نشوء فلسفة التعددية التي باتت تشكل تيارا مهما داخل فلسفة الأديان وحوار الثقافات، ما يقتضي منا تجاوز البعد الأحادي في نظرتنا إلى الوجود والأشياء والآخر، واستبداله بالمقاربة التعددية التي تتأسس على التبادل والتفاعل والانفتاح. ثم إن التفكيك المعتمد في هذا الكتاب يستفيد بشكل ما من تفكيكية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يدمر البنية ثم يعيد بناءها، في حين نحتفظ نحن بالبنية الأصلية ونُلحق بها بعدا إضافيا، وهو بُعد التبادل، الذي يحضر في مختلف المفاهيم والعلائق والمستويات الخاصة بثنائية الإسلام والغرب. ونسعى إلى استجلاء هذا البعد “التبادلي” وتأكيده في تعاطينا مع الآخر الغربي، حتى نتجاوز البعد الأحادي والقطبي الذي يحكم أغلب المقاربات العربية الإسلامية التي اشتغلت على قضايا الإسلام والغرب.
وقد تم عنونة هذا العمل الفكري بـ: الخوف المتبادل بين الإسلام والغرب، ويليه عنوان فرعي يكشف عن طبيعة المقاربة المعتمدة فيه، وهي مقاربة تأصيلية وتفكيكية لظاهرة الإسلاموفوبيا.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبرى، تتوزعها ستة عشر فصلا ومباحث متنوعة، بالإضافة إلى مقدمة وتمهيد حول الحاجة إلى مقاربة جديدة وخاتمة. يحمل القسم الأول عنوان: الخوف من الإسلام، حقيقة أم وهم؟ ويتألف من خمسة فصول تتمحور حول التيمات: المفارقة الرمزية واللغوية، الإسلاموفوبيا: جدلية التأويل والسياق، انتشار الإسلام وعولمة الخوف، الخوف من انتشار الإسلام، ولماذا الإقبال على الإسلام؟ أما القسم الثاني الموسوم بـ: صناعة الخوف.. من الإسلام، فيتضمن ستة فصول، وهي على التوالي: سياسة الخوف واللاتسامح الديني، الإعلام وصناعة ظاهرة الإسلاموفوبيا، قهر الآخر: ظاهرة الهجرة السرية أنموذجا، الخوف المتوهم: ظاهرة الإرهاب أنموذجا، اليمين المتطرف وصناعة الإسلاموفوبيا، الإسلام السياسي وشكوك الغرب. في حين عنون القسم الثالث بـ: تبديد الخوف من الإسلام، ويتألف من خمسة فصول، تتمحور حول قضايا: تبديد الخوف من المنظور الفلسفي، الخوف المتوهم والمد العنصري: آليات للتبديد، ظاهرة الإسلاموفوبيا والأزمة الاقتصادية، تغطية الإسلام: من الطور الإشكالي إلى الطور الإسهامي، وفي الأخير: ترسيخ المواطنة – تبديد الخوف.
وفيما يتعلق بطبيعة المقاربة المعتمدة، فإنها لا تكتفي بتوصيف موضوعة الخوف وإستبانة بعض تجلياتها في الواقع والإعلام والفكر فقط، بل ترمي أيضا إلى تركيب صورة بانورامية شاملة للإسلام في السياق الغربي المعاصر، وفي الوقت ذاته عمودية تحفر في الأسباب والملابسات والتداعيات، حيث الإعلام يشكل خيطا لازورديا يخرط بإبر الخوف أطراف الجسد الغربي، فيتسلل عبر الجريدة والسرد والشاشة والبرامج التربوية إلى النفوس ليحيك صورة متوهمة حول الإسلام بكونه خطرا يلوح في الأفق، لا شمسا تسطعُ على الغرب كما وصفته المستشرقة الألمانية زجريد هونكه قبل أكثر من نصف قرن من الزمن، وبكونه دينا بربريا يهدد مبادئ حقوق الإنسان ومكاسب الحداثة الغربية والعَلمانية، كما تروج أحزاب اليمين المتطرف والحركات المناوئة لما هو إسلامي.
إنها إذن محاولة نقدية جادة لتكسير الرؤية الفكرية والإعلامية التقليدية التي تقدم الغرب باعتباره الخائف والضحية والمستهدف، ومن ثم إقرار أن الخوف ظاهرة إنسانية عامة لا تقتصر على الذات الغربية، بل تتخطّاها أيضا إلى الآخر الذي قد يكون شرقيا أو مسلما أو غير ذلك. وهذا يعني أن الخوف متبادل بين الجميع وغير خاص بطرف دون آخر. وأكثر من ذلك، فإننا نستكنه أن شعور الخوف لا يكون دوما حقيقيا، بل يوجد خوف وهمي أو مُتوهّم كما تطلق على ذلك الدراسات السوسيو- نفسية، وهو خوف متخيل وناتج عن افتراض عدو وهمي يهدد الذات في استقرارها وأمنها، لا يختلف كثيرا عن طواحين دون كيشوت الهوائية التي تضعه في صراع لا متناه ضد عدو غير واقعي لا يوجد إلا في مخيلة الخائف. وقد أصاب اللاهوتي والفيلسوف السويسري هانس كونغ عندما قال إن الغرب يرى في الإسلام عدوا له بعد سقوط الشيوعية، فهو في أمس الحاجة إلى صورة الصورة، التي تشكل له عامل ارتياح نفسي أو استقطاب للأصدقاء والحلفاء أو تحفيز على مواجهة العدو. لذلك، لا يمكن الحديث عن الخوف المفرد، بل الخوف المتبادل والمشترك، الذي قلّما يكون حقيقيا، وكثيرا ما يكون متوهما.
ولعل القارئ سوف يلاحظ أيضا أن السياق الهولندي (بما فيه الفلامنكي) يهيمن على بعض فصول الكتاب ومباحثه، ومرد ذلك بالدرجة الأولى إلى إحاطة الباحث الواسعة والدقيقة بالواقع الهولندي الذي انتظم فيه منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. والخبير هو من يركز على ما يعرف دون تجاوزه إلى ما لا يعرف، فيرتكب من الزلات والهفوات ما قد يُخلّ بمجال معرفته. وقد رأينا كيف يركز الفيلسوف تزتيفان تودوروف على السياق الفرنسي الذي يفهمه، وكيف تقتصر الفيلسوفة مارتا نوسباوم على المجتمع الأميركي الذي تنتمي إليه، وكيف يلتصق مفكرون آخرون بالمجال التداولي الذي يحضنهم، دون الخوض في ما لا يفقهونه.
بهذه الروح العلمية كُتبت أغلب فصول هذا المؤلف، غير أن هذه المقاربة على العموم لا تظل رهينة بالسياق الهولندي، بقدر ما تغطي آفاقا أوروبية وغربية أخرى لاستيعاب أهم ملامح الفوبيا المتبادلة بين الإسلام والغرب. صدر الكتاب عن دار أفريقيا الشرق بالدار البيضاء 2021، وجاء في 273 صفحة.