فن و ثقافة

تجليات صوفية في رواية “قطن أسود”

 

رواية «قطن أسود» للكاتب الأردني محمد مجدلاوي، هي أول رواية أقرأها تتكيء على الأغوار الأردنية فضاءً مكانيًا لها وخاصة الشونة الشمالية وجاورها وعلى الرغم من أن هذه الرواية أنصفت الأغوار ومزارعيها، إلا أنها تثير مكامن الأسى؛ لغياب الأغوار عن الرواية الأردنية – حسب علمي – مع أنها تحتل المكانة الأولى في الإنتاج الزراعي، وتقع على نهر الأردن، وسيرة أهلها قصة كفاح لم تتوقف لحظة واحدة في ظروف قاسية، ولا تكاد تُزار من غير قاطنيها إلا في أواخر الشتاء وأوائل الربيع؛ لما تتمتع به من أجواء دافئة، وخضرة آسرة، وجمال فتان.

تتناول الرواية الزراعة في الأغوار، وما يصاحبها من مشكلات، وخاصة هبوط الأسعار؛ مما يوقع المزارعين في خسائر كبيرة، وديون متراكمة، وتعرج الرواية على ما يعانيه المزارعون وذويهم من حر شديد وشمس لاهبة، ولصوص الليل والنهار وغير ذلك، من خلال حكاية عمران الذي عاش أربعين عامًا في الشونة مع أسرته، ولكنه اضطر للانتقال إلى مدينة إربد؛ رحمة بأولاده من لظى الأغوار، واستجابة لإلحاح زوجته، ولكنه بعد تقاعده، لم يستطع التكيف مع المدينة، وبقيت روحه تحلق في الأغوار، حيث الطبيعة والفضاء الواسع ومراتع الصبا والذكريات الجميلة، ولذا عاد مزارعًا إلى الأغوار، إلى جذوره، إلى الأرض التي عشقها، معتقًا روحه من قيود المدينة وصخبها.

كان اللافت في رواية «قطن أسود»، هذه التجليات الصوفية الكثيرة والمكثفة، التي ارتبطت بالطبيعة وجمالها وسكونها، وصبغت حياة عمران وعليان، وربطت بينهما بعلاقة روحية وثيقة، ولا أقصد الصوفية بمفهومها الديني، وإنما بمعناها الواسع، حيث العلاقة الشفيفة بين الإنسان والكون، وأنس الإنسان بجمال هذا الكون وما فيه من كائنات ومكونات وتوحده معها.

تفتتح الرواية بمشهد يتدفق حياة وفتنة، يطرب القلب وينعش الروح «عبق النعناع البري، يفيض من حِفاف الوادي القريب، ويعبر النوافذ المشرعة في المساء، إذا ما هب نسيم خفيف، صوت العصافير تلهج بالغناء في أعالي الشجر، قبل أن تؤوب إلى أعشاشها وقت الغسق، ناي الرعاة يقود القطيع جذلانًا إلى الحظيرة، اخضرار الحقول التي تمتد حتى نهر يمشي الهوينا نحو الجنوب، والأفق المخضب بالحمرة عند احتضار النهار، ذلك الإيقاع المتناغم بين عناصر الطبيعة». (ص9)

كلما أثقلت الهموم عمران، أو أضناه التفكير، لجأ إلى الطبيعة متنفسه وسكينته: «يجلس على حافة الوادي قريبًا من الماء الذي ينساب رقراقًا بهدوء يوشوش الزهر في الحِفاف، يرنو إلى ما اجتمع حوله من جمال ورقة المشهد، مصغيًا لخرير الماء، يشتبك مع الهديل فوق غصون السرو القريبة، والشمس تودع الوادي بحمرة توشح الأفق، تاركة الليل يتسلل بخفة إلى الفضاء.

كان لهذا الجمال البصري والإيقاع السمعي في المكان وقعًا يعيد التوازن للنفس المضطربة، ويترك أثرًا بهيجًا بعد كل زوبعة تثير غبار القلق في تخوم الروح». (ص12) فيعود إلى بيته «منشرح الصدر، لما لمس وسمع ورأى وتنفس من الطبيعة التي غربلت نفسه من الكدر» (ص13)، ولا غرابة؛ فمن تفتحت عيناه صبيًا على جمال الطبيعة وموسيقاها، لن يجد نفسه إلا بين أحضانها، ولن تتحرر روحه من الأغلال إلا في رحابها.

العلاقة بين عمران والحقول ليست عابرة، بل ثمة روابط قوية، ومشاعر وحب متدفق، ولذا، فإنه عندما يضطر والده لترك بستان لسبب أو آخر، يشعر بالحزن والغربة: «عندما أتيقن أن والدي سيترك الحقل، … تصيبني حالة من الحزن، وكأنني سأفقد صديقًا عزيزًا، فأغدو أتلمس كل شجرة استظللت بها ذات ظهيرة، وكل بقعة أرض جلست بها ذات تعب، وكأنني أودع الحقل كما يودع المحب بحرقة من أحب». (ص15)

ذات مطر في أحد مقاهي إربد، بعد سنوات من انتقاله إليها، يأخذه الحنين إلى الشونة ومطرها وذكرياتها: «يعيده إلى ماض يسكنه بكل ما فيه من ألفة، تجعل الروح تتناغم مع المكان الذي ترفرف في جوانبه أرواح من سكنوه، وتركوا أنفاسهم عطرًا لا يمحوه الزمن» (ص54)، فيعود إلى حارته التي تركها منذ سنوات، وبيت الأسرة الذي هجروه بعد وفاة أمه «ليروي ظمًأ سكن نفسه من وجع الرحيل، ظمًأ للمكان الذي يجمع الأحبة في زمن لن يعود، وظل يخبئ كثيرًا من الحكايات والأسرار». (ص55)

هبت نسائم الفرح على قلب عمران؛ لأنه سيذهب إلى جبل أم قيس لجمع الأعشاب الطبية، فحدث نفسه جذلًا: «أن تكون وحدك في الجبل في مكان مفتوح على البهاء، تحت سماء ساطعة، يتيح لك فرصة أن تكون وحيدًا مع نفسك، تسمع صوت قلبك، وتكون أكثر قربًا من الله وأنت تتأمل جمال خلقه، يا للمتعة! هذا ما ترتجيه نفسي» (ص70)، ولماذا ذهب، وجلس في مكان يطل على بحيرة طبريا ومدينتها وفلسطين من ورائها، وعن يمينه هضبة الجولان بهيبتها، وأمامه نهرا الأردن واليرموك، وعن يساره الأغوار تمتد طويلًا إلى الجنوب، ومن خلفه أم قيس بتاريخها الضارب في التاريخ، جلس «يتأمل جمال الطبيعة،  مذهولًا بسحر المكان، …، بعيدًا عن ضجيج المدينة، أسرته تلك المؤثرات التي تضبط إيقاع الزمن، وتجعل من المكان واحة تحوم بها حمامة الروح بسلام؛ الشمس تبحر في فضاء أزرق، بساط العشب الموشح بكل ألوان الزهر، صوت الرعاة يقودون القطيع بخيط ناي». (ص75)

تضيق على عمران إربد بما رحبت، ولا يأنس بما فيها من مغريات وملذات، ويشعر أنها قفص يخنقه ويكبل روحه، فيكتب إلى صديقه أبي محمود ليبحث له عن مزرعة في الشونة، ليعود إلى حياته السابقة، يبحث عن خلاص وانعتاق روحه، وكسر أغلالها: «لا أريد ضوءًا لا يفك عتمة الروح ويرشدها إلى مسلك يخلصها من ضجيجها حين يمسها السوء. النور الذي يشعرني بالإمتلاء، حتى وإن كنت بأمس الحاجة لرغيف خبز، أبحث عما يتركني أسمع في قباب الصمت صوت قلبي، هذا هو مطلبي، لن أسمح لشيء أن يكسر حلمي أو يدجن قلبي الذي يحن إلى برارٍ تلهج فيها روحي وتصعد في معراجها النقي. هناك الأمكنة الأكثر ألألفة، سأسمع صوت قلبي، وأستعيد ضحكتي التي كانت تتردد في تلك الجنبات قبل أن يخطفها الضجيج». (ص101-102)

وبعد أن وجد المزرعة التي يحلم، سكن إليها، واطمأنت نفسه، وحلقت في الآفاق روحه: «هنا يقترب الإنسان من حقيقته، حين يلامس تراب الأرض التي أحب، والذين ربتهم الطبيعة أدرى بأسرارها وشجونها، علمتهم المحبة، وغرست فيهم بذور الحنين، يعيدهم إليها كلما أوغلوا في النأي، يرتجون ظل شجرة وخرير جدول أو صوت ناي». (ص110)

وفي الأرض التي عشق، يلتقي بشقيق الروح وتوأمها؛ عليان، الذي هجر عمان وأهلها وصخبها، الهائم في ملكوت الله، الذي اتخذ من الناي حبل وصل بينه وبين الكون: «بينما عمران في غمرة تأمله في هدأة المساء، يسمع صوت ناي ما بين الحقول، يصغي إلى مصدر الصوت الذي أحسه قريبًا، والعازف يسكب روحًا مجروحة في قلب القصب، فيشهق العازف، ويزفر الناي بغناء تشربه الحقول والكائنات التي تهجع في جنباتها» (ص111).

وعندما يتجالسان في سكون الليل، وتتآلف أرواحهما وتتعانق، يقول عليان، معبرًا عن شعور بالتوحد والتماهي مع ما حوله: «أنظر إلى هذه الشجرة، إنها كائن مثلنا، تحزن وتفرح، ولكنها تفعل ذلك بصمت، وتواصل الحياة لتمنح غيرها الفرح، تفعل كل ذلك بمحبة، تمنح الظل والثمر للجميع» (ص113)، فالشجرة لا تميز بين صالح وطالح، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين غني وفقير، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين شرقي وغربي، وكذلك الإنسان الرباني، يُقبل على الجميع ويتقبلهم، وليس من شأنه أن يحاسبهم أو يحكم عليهم.

ذات مساء، بعد أن انفض السمار، كان عمران غارقًا في تأمله، غائبًا في حالة وجد، كعادته كل ليله عندما يكون وحيدًا، جالسًا تحت سقف السماء، والمدى ينهمر سحرًا «والليل يمضي على مهل ناشرًا جناحه على الحقول، ولا صوت يطغى على صوت القلب غير تراتيل الشجر حين تمسحها نفحات آخر الليل، في تلك الغمرة من السكينة تخشع النفس وتنعم الروح بصفاء علوي، وقبيل انبلاج الفجر من رحم الليل، تعلو من بين الحقول تراتيل قلب مسكون بالعشق، يلهج بالذكر والتسابيح، يصغي عمران إلى الجهة التي يتأتى منها الصوت، وكأنه يريد أن يتفحص هل ما يسمعه صوت أنس أم صوتًا سابحًا في فضاء الملكوت، كأنه يسمع الحقول كلها تسبح في سكون الليل وتناجي القدوس في هجعة الكائنات». (ص124-125)

وفي ليلة قمرية، وعمران مأخوذ بالجمال الرباني المتجلي فيما حوله وأمام ناظريه، يأتيه من بعيد صوت عليان عذبًا شجيًا، يصدر من قلب مترع بالمحبة والوجد:

«أبدًا تحن إليكم الأرواحُ

ووصالكم ريحانها والراحُ

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

وإلى لذيذ لقائكم ترتاح

وا رحمة للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضّاح

بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم

وكذا دماء العاشقين تُباحُ» (ص139)

لم يكن مرض القلب وتصلب الشرايين ليؤثر على رضى عليان وروحه المتوهجة بالعشق والمحبة، يناجي عمران: «لم تكن المعاناة لتطفئ ذلك الوهج الذي في داخلي، فبعد اجتياز عتبة الوجع، شعرت أن المعاناة تمدني بطاقة تصعد بي في فضاء يسطع بالنور، وقد وجدت يا صديقي أنها الممر الضيق لأفق رحب، من لم يختنق فيه تنفس بعده بعمق» (ص147). إنها الأرواح المحلقة في الجمال وبحار الحب، لا تجد في الألم والوجع إلا سلمًا للارتقاء، فقد ابتلاك من أحبك؛ لتتوهج، لتقترب.. إن صبرت علوت فوصلت، وإن شكوت قعدت فخبت.

عندما يطلبون من عليان أن ينتقل ليعتنوا به في مرضه، بدل أن يبقى وحيدًا، يخاطبهم بأن من كان مع الله لا يشعر بالوحدة، فكل الكائنات معه، تُشعره بالقرب من الله، بالقوة، بالنور يضيء القلب، فتتوضح الطريق، وتسهل على السالك. وعن وحشة الليل التي يخشونها عليه، يقول: «وحشة الليل لا يهزمها شيء غير صوت القلب الذي يلهج بالذكر، أترك قلبك مستيقظًا في الليل والنهار ولا تقلق أبدًا» (ص169)، وأنَّى لخوف أو قلق أو سوء أو وحشة أن تتسلل إلى قلب يقظ ينبض بالذكر؟!

عندما يرجوه عمران أن يرافقه إلى مزرعته، يستشعر عليان ما يجول في خاطر صديقه: «إنني لا أخشى الموت يا عمران، عندما يأتي لن يرده أحد، وما يضيرني إن مت وحدي أو مت بينكم، كل ما أطلبه أن أموت وأنا مع الله، وقت ذلك لا أظنني سأندم على ما فاتني من الحياة. أحتاج إلى وحدتي، لأكون قريبًا من نفسي، ولا يقترب المرء من نفسه إلا في وحدته، يصغي إلى بوحها ويقرأ مكنوناتها، فيقودها إلى ما يدخلها في ظل الله» (ص171)، إذًا العبرة أن تموت وأنت مع الله، ولا وزن ولا أهمية لشيء بعد ذلك.

وبعد أن يموت عليان، ويدفن في الباقورة، بالقرب من أرض غربي النهر كان يناجيها وتناديه «يلوذ الجميع بالصمت، والكل يصغي إلى الطبيعة العظيمة، وهي تعزف لحن الوداع الأخير بما يليق بروح عظيمة، عاشت هنا بصمت ورحلت بصمت، وكانت قفلة الختام؛ برق فجَّ عتم الكون، ورعد دوّى في الأفق ورددت صداه الجبال والأودية السحيقة» (ص193)، لكأن الكون يبكيه، وينتحب لفراق روح هامت فيه، وتوقف قلب فاض بالمحبة، وإنسان كان أُنسًا وأَنيسًا.

وبعد؛؛؛ فإن «قطن أسود، محمد مجدلاوي، عمّان: دار خطوط وظلال، 2021، 193 صفحة»، رواية نجحت في نسج خيوط شفيفة زاهية من التجليات الصوفية، وأبدع كاتبها في ترجمة حالات الوجد والهيام والتوحد مع الكون، بكلمات جميلة عذبة، وبلغة شاعرية محلقة، ومشاهد نابضة آسرة، متخذًا من الأغوار الأردنية أخفض بقاع الأرض سلمًا للصعود والإرتقاء، فانخفاض المكان لا يمنع من العلو لمن امتلك أسبابه، وارتفاع المكان لا يعني علو المكانة أو المنزلة.

 

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى