عاصفة في القاهرة

في ديسمبر العام 1961 كتب الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي مقالاً في مجلة الكاتب المصرية مقالاً تحت عنوان “أزماتنا من الشعور بالانتماء، وكانت المجلة لها توجه قومي عروبي حادّ، وهاجم حجازي الشاعر علي أحمد سعيد الشهير بأدونيس، وكان له ميول قومية عروبية بعثية في تلك المرحلة، وأثار حجازي في مقاله ارتباط الشعر بالعصر والتراث، وشنّ هجوماً ضارياً على مجلة “شعر” التي أسسّها أدونيس مع زميله ورفيقه يوسف الخال، ورغم أن أحمد حجازي أثنى على المجلة من حيث انتظامها وقدرتها على شق طريق متميّز في الحركة الشعرية العربية، وأن تقود هذه الحركة إلى انتصارات واضحة وكبيرة، وتثير أسئلة مهمة وفاعلة في الحياة الفنية والثقافية في الوطن العربي، إلا أنه راح يكيل للمجلة وللقائمين عليها سلسلة اتهامات جسيمة، إذ أنها “اتخذت طريقاً شعوبياً يسخّر الشعر والفكر لمهاجمة العروبة، ويفتعل للشعراء والمفكرين العرب أزمات روحية، ليست هي الأزمات الروحية التي نعانيها في هذا العصر المثقل بالنهضة إلى درجة النشوة، المشدود إلى الانحطاط لدرجة اليأس، إن مجلة “شعر” تشجّع الشعراء مثلاً على أن يتمثلوا الازمات المترتبة على شعور اللاانتماء، هذا الشعور الذي يمارسه الشاعر والمفكر المعاصران في أوروبا، بينما أزماتنا نحن مترتبة على الشعور الحاّد بالانتماء. إننا ننتمي إلى وطن غير موجود في الواقع، وإن كان موجوداً في الحقيقة”، ويستطرد حجازي في تعضيد هذا النشيد القومي العروبي الذي كان يعمل بقوة آنذاك، ثم يخرج عن هذا السياق النظري والتعميمي ويخصّ أدونيس بتطبيقات نقدية وفكرية ويقتبس فقرات من قصيدته التي يبدأها بـ: “مهيار وجه خانه عاشقوه، مهيار أجراس بلا رنين، مهيار مكتوب على الوجوه، أغنية تزورنا خلسة، في طرق بيضاء منفيّة، مهيار ناقوس في التائهين، في هذه الأرض الجليلة”، وهنا يتوقف حجازي عند استدعاء أدونيس لمهيار الدمشقي، واضعاً بعض علامات الاستفهام حول هذا الاستدعاء غير المبرر فكرياً ونقدياً وشعرياً وعروبياً ومرحلياً، مما دفع أدونيس لإرسال رد إلى المجلة تحت عنوان “الثقافة العربية وآراء حرّة”، نشرته المجلة في عدد فبراير، وأعيد نشره مرة أخرى في صحيفة النهار اللبنانية في 21 فبراير 1962، ويفنّد دونيس في هدوء مقولات واتهامات حجازي واحدة واحدة، ويردّ عليها، بل يسخر منها سخرية مقنّعة وينتهي إلى قوله: “ليست الثقافة العربية خيطاً وحيد اللون، ليست باباً ترصده وتختص به فئة معينة من العرب، ليست موقفاً مذهبياً وحيداً، إن الثقافة العربية خيوط عديدة وأبواب لا حدّ لها، ومواقف حرّة منفتحة كثيرة كثرة الخلّاقين الأفذاذ”.

“شعر” و”مواقف”

ولم تكن هذه التجريدة التي شنّها حجازي وحيدة وفريدة من نوعها، بل كتب الناقد المصري الشاب واللامع ـ آنذاك ـ رجاء النقاش، والذي يشارك حجازي بقوة في توجهاته الأيديولوجية، سلسلة مقالات عنيفة، ويعمل في هذه المقالات على تطوير أسلحة الاتهام، فيرفعها إلى درجة الخيانة العظمى للعروبة، وانتماء أدونيس القومي السوري، وتلمذته المعروفة للملهم أنطون سعاده، القائد والمفكر والزعيم، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وركّز النقاش على الأبعاد السياسية التي تحيط بأدونيس وأنطون سعاده، هذه الأبعاد التي لا تريد سوى هدم الوطن العربي والقومية العربية والفكرة العروبية من أساسها، ولم نعدم في مقالات النقّاش بعض التأويلات النقدية التي تجعل من الغموض في شعر أدونيس مجرد أداة لتمرير الأفكار الخبيثة التي تكمن خلف جدران الشعر اللغوية، وبالطبع راح العض يلوّحون آنذاك بأن هناك حملة شبه منظمة لاغتيال أدونيس مصرياً وعربياً، وأعتقد أن هذه الحملة حققت بعض غراضها مؤقتاً، وأزاحت أدونيس بشكل نسبي من الرواج في مصر، وهذا كان انتصاراً مؤقتاً للفكرة القومية العربية السائدة بالمفهوم الناصري فقط، واستبعاد المفاهيم الأخرى كافة لتلك القومية، وبالتالي فكان استبعاد أدونيس ورفاقه جديراً بالتأمل، لذلك لم يمنع هذا الاستبعاد التعسفي والسياسي والأيديولوجي لأدونيس وشعره واتجاهه الشعراء المصريين من النشر والتواصل مع مجلة “شعر”مثل محمد عفيفي مطر ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وابراهيم شكرالله وغالي شكري وغيرهم، بل إن المجلة نشرت في العدد 39 رواية “تلك الرائحة” المصادرة في القاهرة للكاتب صنع الله ابراهيم، وذلك في شتاء العام 1968، مما يعني أن المجلة لم تحبط ولم تيأس من التفاعل مع المثقفين والشعراء المصريين، وظلّت تتواصل مع الثقافة المصرية بشكل فاعل، رغم أن المجلة لم تكن مطروحة في مصر، ولكنها كانت تصل بطرق مختلفة، وقبل أن تتوقف مجلة شعر عن الصدور العام 1970، كان أدونيس قد غادرها لخلافات معروفة تاريخياً، ليصدر مجلة جديدة وهي مجلة “مواقف” في تشرين الأول العام 1968، وآثر أن تكون مقدمة العدد الأول بقلم مفكر مصري مرموق، وهو الدكتور زكي نجيب محمود، الذي جعل عنوان هذه المقدمة الطويلة “ميلاد جديد”، واعتبر أن بلادنا العربية في ذلك الوقت تفتقد إلى أدنى أنواع الحرية، وهو كلام جديد لزكي نجيب محمود، وهو الرجل والمفكر الذي كان يتعامل بحذر مع السياسة، ولكنه قد تخطى الحواجز في هذا المقال الذي جاء تصديراً للعدد الأول من مجلة مواقف، كذلك أجرى سمير الصائغ حواراً طويلاً وجذّاباً مع نجيب محفوظ، ولم ينس أدونيس أن يؤكد “عروبته” التي تختلف بالتأكيد مع عروبيات أخرى، واعتبر أن المجلة الجديدة “حقيقة ورمز، تفجّر جيل عربي، اختبر ما في الحياة العربية من تصدع وخلل، وقرر أن يبحث من جديد، وأن يكتشف ويبني من جديد”، واستمرت المجلة في التواصل مع الكتّاب والمثقفين المصريين، فنشرت نصوصاً ومقالات ليحيى الطاهر عبدالله وابراهيم أصلان وفرانسوا ياسيلي ومحمد مهران السيد ولطفي الخولي وفؤاد زكريا وغيرهم، وكذلك كانت المجلة تأتي إلى مصر بطرق مختلفة، وكانت أبرز هذه الطرائق، التسلل إلى المخزن الخلفي لمكتبة الحاج مدبولي، الذي كان يستورد المجلات والكتب الممنوعة من البلاد العربية كافة، وبخاصة الكتب التي تأتي من لبنان، وكان بين هذه الكتب والمجلات، مجلة “مواقف”، ودواوين أدونيس، وبرز في الساحة كتاب “زمن الشعر”، الذي افتتن به الشعراء الجدد، هؤلاء الشعراء الذين راحوا يطلقون على أنفسهم “شعراء السبعينيات”، وقرأ بعضهم شعر أدونيس بعناية فائقة، بل إن بعضهم تأثر به تأثراً بالغاً، لدرجة التماهي والنقل المشّوه لتجربته، ولكن كان كتاب “زمن الشعر” بمثابة البيان النقدي للحركة الشعرية المصرية في السبعينيات، وفي أواخر السبعينيات أجرى القاص والروائي الراحل يوسف أبو رية حواراً مع الشاعر أمل دنقل، ونشره في مجلة خاصة ومستقلة كان يصدرها رجل الأعمال “كامل الكفراوي”، هذه المجلة كان اسمها “الكراسة الثقافية”، وكان يشرف على إصدارها الشاعر أمجد ريان، وفي هذا الحوار فتح دنقل النار على الجيل الجديد، أو الشعراء الشباب، واتهمهم بأنهم يقلدون الشاعر أدونيس تقليداً أعمى، ورغم أنه يحترم تجربة أدونيس بشدة، إلا أنه لا يحترم هؤلاء الأدونيسيين الذين لا يحسن الواحد منهم كيف يقيم الشعر ولا القصيدة ولا الاستقلال، ونبّه أمل هؤلاء الشعراء الجدد بأن لا مانع لديه من التأثر بتجربة أدونيس، لكن حذار من التماهي معها، والانتحار تحت عجلاتها القوية، واعتبر أن الإغراء الأدونيسي لجذب هؤلاء الشعراء من الممكن أن يقضي عليهم إن لم ينتبهوا، ويتمحصوا التجربة الأدونيسية جيداً، لأنها تجربة أصيلة، وتقليدها صعب، وسيجعل من مقلّديها مسوخاً شوهاء لا تصلح للتقدير ولا للاحترام، وهذا الكلام لأمل دنقل جرّ ويلات عديدة عليه من الشعراء الجدد، فكتب الشاعر الراحل حلمي سالم ردّاً عنيفاً في العدد التالي من المجلة وكتب له عنواناً “أدونيسيون ودنقليون”، وشنّ على أمل دنقل هجوماً ضارياً من دون هوادة، وكذلك فعلت جماعة “أصوات” ونشرت ما يشبه البيان الذي يهاجم أمل دنقل، ويصفه بأنه شاعر رجعي، وكانت الواقعة المعلنة التي رصدها البيان هي قصيدة أمل في رثاء يوسف السباعي، ولكن كان المضمر هو هجوم أمل على الشعراء الشباب، وكل هذا يدلّ على تغلغل الروح والنظرية الأدونيسية نقدياً وفنياً لدى الشعراء المصريين، وهناك بعض الشعراء الذين هالهم هذا الحضور الأدونيسي الطاغي، فاجتنبوه، وهناك تصريح للشاعر حسن طلب يقول بأنه قرر عدم قراءة أدونيس في تلك الفترة لتجنب التأثر به تماماً، وكذلك كتب الشاعر رفعت سلام كتاباً عن التراث تناول في بعض أجزائه نقد أدونيس، بينما كتب الدكتور نصر حامد أبوزيد دراسة فاحصة وإيجابية عن قراءة أدونيس للتراث، ونشرها في أحد كتبه، وهذا الحراك الأدونيسي في القاهرة لم يكن دليلاً إلا على وجوده بقوة، بعد أن نعى الدكتور جابر عصفور الشعر المصري في مقال له بمجلة الكاتب العام 1975، وكان أدونيس محل جدل ونقاش، وكانت أفكاره مغرية جداً لاعتناق هؤلاء الشعراء الجدد، والحوار الثري الذي فجّرته كتابات هذا الشاعر، وسريان مقولاته في نقد هؤلاء الشعراء، وهناك دراسة لحلمي سالم نشرها في مجلة “إضاءة 77” في العدد الصادر في أغسطس العام 1978، تحت عنوان “نقد العقل الميكانيكي”، ورغم أن حلمي سالم أدرج بضعة كتب ارتكز عليها في هذه الدراسة، إلا أن تاثره البالغ بأفكار أدونيس ومقولاته وأطروحاته كانت واضحة تماماً، مما دفع الشاعر رفعت سلّام للرد عليه في العدد ذاته، وكان عنوان ردّه “نقد النقد الميكانيكي”، أي أن أدونيس لم يكن محل اتفاق عام، ولكنه كان محل جدل وحراك عنيف في الحياة الشعرية المصرية، ولكن كثيراً من الشعراء المنتمين إلى الماضي، كانوا ينظرون إلى الشعراء الجدد على اعتبار أنهم مسوخ أدونيسية عاطلة عن الموهبة والإبداع، وهذا ما قرره الشاعر والناقد الراحل الدكتور كمال نشأت، الذي أنشأ كتاباً كبيراً لرصد هذه الظاهرة، وتعقب قصائد الشعراء بطريقة بوليسية لإيضاح مناطق سرقة أدونيس بشكل سافر، وهو لا يرصد هذه السرقات، على حدّ زعمه، إلا لإثبات التبعية المقيتة للشعراء الجدد، وهناك ناقد آخر ينتمي للتيارات الإسلاموية المتطرفة اسمه حلمي القاعود، أنشأ كتاباً آخر ووصف هؤلاء الشعر “المتأدنسين” بالهاموش، وبالكفر، والدليل على كفرهم البيّن، اتبّاعهم لشيخهم السوري أدونيس، ولكن كل هذه الخزعبلات التي كانت تستخدم فزاعة الدين وفزاعة القومية العربية، وفزاعات أخرى كثيرة، لم تمنع شاعراً موهوباً مثل عبد المنعم رمضان أن يصف أدونيس براقص الباليه، ويكتب عنه مقالاً عاشقاً ومفتوناً به، وينشره في العدد اليتيم من مجلة “الكتابة السوداء”، الذي صدر في العام 1988.

شعر المقاومة

حالة الجدل هذه التي كانت قائمة منذ زمن بعيد في الحركة الثقافية والشعرية المصرية، لم تغفل موقف أدونيس السلبي في البدايات من شعر الأرض المحتلة، والطريقة التي رأى بها أدونيس هؤلاء الشعراء، واعتبرهم ظاهرة محض سياسية، وهذا اتضح في الحوار الذي أجراه الناقد محمد دكروب مع أدونيس في العام 1970، ونشر في مجلة “الآداب” اللبنانية، وأوضح أدونيس موقفه ونظرته من شعر وشعراء المقاومة، وهذا استدعى من محمود درويش كتابة مقال يردّ فيه على بعض الأفكار التي وردت في هذا الحوار، ولكن كان لم يذكر درويش ذلك صراحة، ولكنه ترك كل هذا لفطنة القارئ، هذه النظرات التي أوضحها أدونيس، كانت تثير حفيظة بعض دراويش الثورة الفلسطينية، ودراويش الثورة عموماً، ولكنهم كانوا يرددون بعض مقاطع شبه درويشية يتماهى فيها أدونيس مع الحالة الثورية الواضح إذ يقول:

(سمّني قيساً
وسمّ الأرض ليلى
باسم يافا
باسم شعب يرفع الشمس تحيّه
سمّني قنبلة أو بندقيه)

وكانت هذه القصيدة “هذا هو اسمي” العام 1971، بعد انفجار شعر المقاومة بطرق متعددة، وانحياز وتأثر قطاع كبير من الشعراء العرب بهذا الشعر، لكن يظل المعمل الأدونيسي ظاهرة حيّة وفاعلة وتاريخية، ومثيرة للجدل الذي يحتمل كل التوجهات التي تناصر والتي ترفض والتي تقف عن بعد، وهذا يضع كل أسئلة أدونيس الثقافية والفنية في مهب كل الرياح التي هبّت وتهبّ وستكون عاصفة في مسثقبل الثقافة العربية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى