العزف والعزيف
“لولا الموسيقى كانت الحياة مجرّد غلطة”
_________________________________
إلى” ياسمين محمود”
انطبق الباب على إصبع الفتاة فقصَّ الإبهام!
كانت عازفة “تشيلّلو” ولم تعد كذلك .
اختفت موسيقى التدريب، والمشهد التشكيلي الناطق، متعدد الزوايا، من إحدى غرف البيت. اختفت أيضاً تلك الموسيقى التي ترّف على أفاريز النوافذ في البيت، مبثوثة من أشرطة العازفين الذين احترفوا خلخلة الهواء في رئات البشر، وهم يصدرون من قصباتها، انتباهاً إلى ما ليس يومياً… الحنين إلى الحنين!
كان صعباً مشهد الدم والإصبع المرتجف المرمي على الأرض. وكان مخيباً ألا يستطيع الإسعاف إعادة النسق الجمالي إلى جرح متهتك لأن هواء طائشاً أطبق، في لحظة القدر، باباً على إصبع.
ولكن ما كان مستحيلاً هو محاولة التذكر الكوني… تلك المحاولة المتعلقة بذاكرة التطور… حين الكون كله خالٍ من لا أحد: سديمٌ وعدمٌ، وليس لدى الطبيعة ما يحسم حيرتها في وحدتها وصمتها… فأرادت أن تخلق البشري من خلية زحفت بين ركام الوجود وطينه الإبتدائي تخلقه لكي تتسلى بالحركة بدلاً من السكون، بالجسد البشري بدلاً من الصخرة السوداء. بالصوت بدلاً من هدوء العدم.
ولكي يكون لدى الكائن إصبع في يد استغرق الأمر ملايين السنين. وفي لحظة يبتر هذا الشيء الذي يمسك قوس “التشيللو”… تلك الآلة الجليلة المعتبرة الجدّ الأول لسلالة الوتريات!
كيف يوصف هذا الأذى؟ (هذا الأسى ؟)… ثمة “عزف” آلة توقف أمام “عزيف” الرياح التي أطبقت باباً على إصبع!
بعد سنين… استطاعت تلك الفتاة أن ترمم المبتور. وأن تمسك قوس البداية…
وفي يوم شتائي عاد إلى تلك الغرفة المشهد التشكيلي متعدد الزوايا:
صبية صغيرة وآلة أطول منها ، والموسيقى كأنما عادت من منفاها إلى وطن الوتر.
مرة أخرى، صدحت تلك الأنغام… كأنما الجد الحزين على الفقدان… جدّ الوتريات قد أفاق ناهضاً من العدم.
في لحظة الإصغاء إلى ما كان مستحيلاً…
في لحظة العودة إلى الوتر المقطوع
والإصبع المبتور كان عصرنا المدفعي يستبدل العزف بالقصف .
……………………………..
كل هذا الحزن من أجل إصبع مبتور؟
كل هذا الصمت من أجل وتر مقطوع؟
وماذا عن هؤلاء “الغزيري الموت” في كل مكان؟
ماذا عن فقدان مقعدهم في الحياة…؟
عن بترهم جماعات جماعات؟
ثمة ذاكرة تقول ، أيضاً في لحظة الحياة الحيه :
“عارٌ على من يغني وروما… تحترق؟”