في بدائل المجتمعات العربية من سايكس بيكو جديد
«سأحتاج إلى الكثير من النبيذ كي أحتمل ميتةً كهذه»
راسبوتين (الكاهن الروسي الشهير بعد تعرضه لمحاولة اغتيال)
يتندر كثيرون بأن التاريخ في الوطن العربي/ الشرق الأوسط لا يعيد نفسه فحسب، بل إنه يتكرر كل بضع عشرات سنين بشكلٍ حرفي. لكن هذا التندر الحقيقي بعض الشيء لا يدرك أصحابه أنهم طرقوا لبّ الحقيقة. فالتكرار هذا ليس أمراً «طبيعياً» كالفياضانات والسيول، إنه من صنع البشر وتدبيرهم؛ إنها لعنة سكان هذه المناطق وجلجلتهم الدائمة التي عليهم أن يسيروها كل حين.
سيعاد تقسيم المنطقة. هكذا بكل بساطة تشير أكثر من دراسةٍ غربية تتحدث عن منطقة الشرق الأوسط، والمناطق العربية تحديداً. فالمنطقة بكاملها في أتون اشتعالٍ مخيف. لكن كيف يمكن استيعاب أسباب الاشتعال هذه من دون فهم نقطتين قبلها: لِمَ يحصل التقسيم الجديد؟ ومن المستفيد منه؟ الإجابة على السؤال الثاني قد تكون «بديهيةً» بعض الشيء لكثيرين، الغرب/ الدول الغربية/ الولايات المتحدة/ إسرائيل. لكن هذه ليست الحال كما هي على بساطتها. فالأمور لا تؤخذ هكذا في حسابات الدول الكبرى. فالغرب كما الولايات المتحدة لا يرغب بالتقسيم هكذا من دون أسبابٍ وموجبات: إن التقسيم «حتمي» لكنه ليس عبثياً. لا يحتمل العراق – مثلاً – شكله القديم البتة دون ديكتاتور. فطبيعة الخلطة الحالية لا تتيح أبداً لأي حاكمٍ أن يتخلص من «أعباء» الطائفية الملقاة على المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات. أضافت الحروب «الطائفية» المستعرة ثقلاً «خارقاً» على الأمر. العراق لا يمكنه الاستمرار بصيغته القديمة، وهي فاشلة بكل المقاييس ولا يمكن «لجمها» وضبطها بأي حالٍ من الأحوال. وما ظهور داعش وتقدّمه واحتلاله مدناً ومناطق شاسعة وسط انهيارٍ تامٍ لجيش الدولة المركزية إلا دليلٌ «مشعٌ» على الفكرة. سيحضر سؤال – ضروري – هنا: لِمَ لا يخلق الأميركي ديكتاتوراً جديداً وينصبه كما كان يفعل في أميركا اللاتينية سابقاً؟ الإجابة بسيطة: وسائل الإعلام، التغطية التلفزيونية 24/ 24، فضلاً عن أنَّ المجتمع العراقي «المشوّه» خلال سنواتٍ طوال لم يعد يمتلك «خاصية» إنتاجٍ مشابهة.
فالديكتاتور – ولمن لا يعلمون أوليات إنشاء الديكتاتور – يحتاج حرفياً إلى بيئةٍ «وطنيةٍ» حاضنة كي يحكم، والعراق لا يمتلك تربةٍ مناسبة لذلك حالياً. إذاً دولةٌ كبيرة (بالنسبة إلى المنطقة)، غنية بالبترول وبالتعداد البشري، هي سلاحٌ ذو حدين، ليس ضد الغرب فحسب، بل ضد جميع جيرانها قبل أي شيء. من هنا كان المستفيد من تقسيم العراق – مثلاً – أكثر من أي دولةٍ غربية هم جيرانها: تركيا، السعودية، بل وحتى إيران (وإن لم تفصح). إذاً باختصار قد يكون مؤيّد التقسيم هذا دولة لا تتوقع منها ذلك أبداً. هذا النموذج العراقي طبعاً يمكن القياس عليه، وتطبيقه على البقية.
لِمَ التقسيم؟ هذا هو السؤال الأوّل والأهم. ونظراً إلى ذلك فإنه لا بد من إفراد الوقت كما المساحة له: ما هي الفائدة المرتجاة من تقسيم دول المنطقة بطريقةٍ مختلفةٍ عن الطريقة السابقة؟ وليس بالضرورة «أصغر» أو إلى «دويلات» لا حياة لها، وكل تلك «التحليلات» التي قد تجافي الصواب. فدولة داعش المقترحة مثلاً تمتد من حدود الرقّة في سوريا إلى حدود العاصمة العراقية بغداد مثلاً، هل هي دولةٌ صغيرة؟ أم دويلة؟ وهل تفتقد فعلاً «لأوليات الحياة»؟ سيقول لك أي خبيرٍ اقتصادي بأن هذا غير صحيح، فتحت أية إدارة اقتصادية ناجحة –لو توافرت- فإن دولة داعش يمكنها النجاح وبسرعةٍ فائقة. إذاً ما حكاية إعادة التقسيم؟ لِمَ هو مطروحٌ بهذه القوة. سيأتيك الصوت الداخلي المخيف: دولٌ طائفية. ستهز برأسك بديهياً، فهو الأقرب للمنطق، لكن فعلياً ما حاجة دولٍ عظمى بمراكز أبحاثها إلى دولٍ «متخلّفة» ثقافياً، «متعفّنة» فكرياً، عنصرية قلباً وقالباً؟ ما هي الحاجة لدولة مثل داعش؟ أو لدولة سنيّة مثلاً؟ أو لدولة شيعية؟ أو لدولة مسيحية؟ وقس على ذلك. في الحقيقة لا تحتاج إليها أبداً. كان المشروع الصهيوني –أي دولة إسرائيل- يحتاج إلى دولٍ شبيهةٍ بهذا النوع من هنا كانت تجربة تخليق «بشير الجميّل» التي فشلت بشكلٍ سريعٍ وفوري، وأغلق ذلك الملف ورمي ولم يعد أحدٌ حتى في الدولة العبرية يتحدث عنه. إذا لِمَ نجد اليوم كثيراً من مثقفي البترول والنفط العربي يحملون هذه المعزوفة دائماً وأبداً؟ السبب أنّها الأقرب إلى المزاج الشعبي والتصديق. كما أنّها تريح طرفين مهمين: دافعو رواتبهم في آخر الشهر، وجمهورٌ طائفي من جميع الاتجاحات يريد اسكات شاطينه: أسكنونا معاً فنرتاح. لكن حتى ولو حصل ذلك وهو أمرٌ سيكون شديد الإضحاك لأنه حتى في أكثر السيناريوهات سوريالية فإن هذه الدول «الطائفية» البحتة ستحتاج إلى التعاون مع جيرانها الكارهين لمجرد وجودها كي تستمر بالحياة. فدولة «شيعية» في لبنان/ سورية مثلاً مضطرة بشكلٍ حتمي للتعاون مع جارتها السنّية بأي حالٍ من الأحوال فضلاً عن أن التوزيع الديموغرافي للطوائف تغيّرت أوضاعه مع حروب المنطقة، فالمناطق التي كانت محسوبةً على طرفٍ ما (طائفة/ دينٍ) باتت متنوعةً جداً. وما محاولات داعش الحثيثة لتهجير المسيحيين وقتل الأكراد إلا لعبٍ في الوقت الضائع، فقتل كل «مختلفٍ» وتهجيره ليس أكثر من جريمة سمجة لا يصح حتى مجرد تقبّلها.
إذا أين الإجابة؟ لِمَ التقسيم؟ التقسيم ضروري للغرب لأنه مريح. هذا أولاً، فهي في نهاية الأمر ستكون دولاً «فتية» تحتاج سنيناً كي تبني نفسها، فتنشغل عن غيرها وتتفرغ للاهتمام بنفسها وبصناعتها، وإذا ما فكّرت بالقيام بحربٍ ضد جيرانها، فإنَّ ذلك لن يكون إلا مصدر «رزقٍ» للغرب وانتقاء (حيث يمكن للغرب الموافقة على خوض المعركة أو رفضها، فتلك الدول الفتية لا تمتلك قدرة عسكرية على حسم أي شيء). ثانياً: الأسباب الاقتصادية المعتادة، دولٌ جديد في المنطقة يعني اتفاقات اقتصادية مع شركاتٍ (قديمة ربما) لكن بشروطٍ مختلفةٍ وبأقل الأسعار الممكنة، فالزعماء الجدد يريدون إرضاء «ولي نعمتهم» لذلك فإنّهم مستعدون «فطرياً» لتقديم أقل الأسعار. ثالثاً: غربلة تاريخ المنطقة وطمسه. قد يكون هذا السبب «خلبياً» بعض الشيء، لكنه موجودٌ بالتأكيد. فالدمار الشاسع والهائل الذي أحدثته داعش (والنصرة والجيش الحر حتى) لكل «مصادر» التاريخ في المنطقة لهو لافتٌ حقاً، وممنهجٌ إلى حدٍ كبير، ذلك يجعلنا نشك فعلاً بأن التنظيم يفعله عشوائياً ومن دون خريطة أو منطق. باختصار عليك أن تجرّد المنطقة من تاريخها «المشترك» والجامع والحضاري، فتعود إلى ما قبل ذلك إلى مرحلةٍ أكثر «بدائيةٍ» ومباشرة. رابعاً: الشرذمة. لا اتحاد عربي، لا وطن عربياً واحد، وبالتأكيد لا عروبة من أي نوع؛ فالصراع القائم حالياً، ينفي وجود العروبة بشكلٍ مطلق، لذلك فإن مجرّد التذكير بالأمر أو تذكّره هو مرفوضٌ بأي شكلٍ من الأشكال. خامساً وأخيراً: الأدلجة، فدولٌ صغيرةٌ مثل هذه سرعان ما ستجد نفسها بحاجةٍ إلى إيديولوجية ثقافية (ولسنا نتحدث هنا عن أإيديولوجيات القرن الماضي كالشيوعية والماركسية وغيرها) الاستهلاك بأشكاله، الغربنة بشكلٍ كامل، وبالتأكيد الأسلمة على طريقة «الدرعية» (نسبةً لعاصمة آل سعود) الوهابية: أي أنه إما الانفتاح الشامل أو الانغلاق الشامل، لا أكثر ولا أقل.
باختصار تبدو دول المنطقة أمام مخاضٍ عسيرٍ مخيف. المحزن في الأمر أنه ليس هناك أبداً من قوىً مانعة لهذا التغيير أو للحد منه وايقافه، فكل القوى قد نحيت لتفعيل هذا المشروع، فالقوى الطردية الدفاعية (كحزب الله مثلاً) مشغولةٌ بحماية وجودها. إذا ستقسّم هذه البلاد، هذا أمرٌ حتمي، السؤال الأهم هو: متى فحسب لا أكثر ولا أقل.
صحيفة الأخبار اللبنانية