كتب

الليلة العجيبة.. التحول الحسي في حكاية رجل بلا طموح

هل يمكن أن يعيش الإنسان بلا طموح؟ هل تخيلت يوما أن تحيا يوما حياة مرفهة يتوفر فيها كل ما تحتاج لدرجة انك لا تملك هدفا تسعى نحوه، كيف يصبح  طعم الحياة بدون السعي نحو هدفا ما.

هذه كانت حياة الملازم فريديرتش ميكائيل فون آر، ملازم الاحتياط في سلاح الفرسان إلى أن حدث حدث مفصلي في حياته وهو تلك العجيبة، ليلة السابع من يونيو/حزيران في العام 1913.

عُثر على مذكرات الراوي في شكل رزمة مغلقة بمكتب الملازم فريديرتش بعد أن سقط قتيلا في معركة (راوروسكا) في خريف 1914 والمذكرات هي عبارة عن قصة حقيقية عاشها الفقيد بكل تفاصيلها.  تعهدت بها عائلته إلى الكاتب ستيفان زفايغ لنشرها مكتفيا فقط بتغيير الأسماء دون تعديل أو إضافة أي شي آخر .

انعدام الطموح

بطل الرواية شخص يبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما، من الطبقة البرجوازية، توفي والداه في وقت مبكر تاركين له ثروة كافية تعفيه من التفكير في كسب العيش أو النحت في مسيرة مهنية، حتى دراسته في الأكاديمية حصل عليها بفضل علاقاته الأسرية .

يلاحظ القارئ في بداية الرواية تكرار مفهوم (انعدام الطموح) فيقول الراوي (وقد كنتُ الوريث الوحيد، فوفرت لي فجأة استقلالية تعفيني من أي عمل، بل مكنتني حتى من تلبية رغباتي في الإنفاق والترف . لم يكن لدي أي طموح ).

(كانت لدي كل متع شاب مميز نبيل وثري وفوق هذا مسارُ بلا طموحات ).

غير ان هذه الحياة المرفهة زادت من إحساسه بالرتابة والخمول وقد ملَ من اهتمام المجتمع بمظهره المتميز لم يسد نبله وماله الفراغ الذي تركه غياب الطموح . لكن بعد تلك الليلة العجيبة لم تعد أيامه متشابهة.

(ومع ذلك أستطيع أن أقول إني لم أكن في تلك الفترة تعيسا قط، وذلك لأنه نادرا ما لا يقع إرضاء رغباتي، ولأني كنت أجد على الدوام تقريبا كل ما كنت أطلبه من الحياة. وعلى الرغم من ذلك، فإن حقيقة اني تعودت أن أجد من القدر كل ما ارغب فيه، حتى إني لم اعد أجد شيئا آخر أطلبه منه، دفعتني شيئا فشيئا إلى أن أستخلص أن حياتي تفتقر إلى الكثافة وأنها غدت في حد ذاتها رتيبة).

يبدأ فصل جديد من حياة الراوي عند توجه إلى أحدى ميادين سباقات الخيل إذ أن مشهد تفاعل الجماهير مع انطلاقة مسابقة الخيول ومعرفة المنعطف الذي يصله المتسابقون من خلال حركة رأس الجمهور والتطويح بالبطاقات يزيد من حركية الأجواء، لكن ذلك يمر دون أن يكون له وقع كبير على مشاعر الراوي إلى أن تجذبه رؤية امرأة تختلف عن الكثير من النساء اللائي مررن في حياته بمواصفاتها الجسدية وضحكتها المغرية وهي تحظى باهتمام المحيطين بها، فيبدأ بملاعبة هذه المرأة ومتابعة ضحكاتها المجلجلة لكن سرعان ما يمل منها عندما يكتشف أن زوجها (لاجوس) الرجل البدين الذي تتناثر منه تذاكر السباق رغما عنه في زحمة الميدان، فتقع أحدى التذاكر أمام قدميه فيخفيها عن لاجوس، وهناك يكتشف أن هذه التذكرة الي أخفاها بقدميه هي البطاقة الرابحة وهنا ينتابه تأنيب ضمير بأن ماحصل عليه من مال بسبب هذه التذكرة هو في الحقيقة مال مسروق تصرف لايليق بملازم في سلاح الفرسان ونبيل من نبلاء الطبقة البرجوازية، (لقد كان الشعور بالطهر الأخلاقي، ذلك الإحساس الذي كان بالنسبة إلي مسألة بديهية تماما كعادة الاحتفاظ بالمفروشات النظيفة، يجد فظاعة في أي احتكاك، وإن يكن سطحيا، بهذه الورقات النقدية). فيقرر هنا إعادة المال عن طريق المراهنة على (تيدي) الحصان الأقل حظاً بالفوز لكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن، يفوز تيدي ومكسبه يزداد من المال المسروق، فيما يرفض الراوي تجاهل الموقف الذي يسميه بالمخجل، على الرغم من ذلك فإن ما يسكنه في العمق هو الشعور بالفخر والسعادة. (وفجأة أدركتُ ببساطة، وفي التماعة ضمير خاطفة، كما لو أن عود ثقاب اشتعل فوق ظلمة ذاتي العميقة، أن الخجل هو ما اردت أن أشعر به داخل أعماقي هو نوع من الفخر الخفي، بل بالسعادة لأني ارتكبت هذه الحماقة). وبسبب ماحدث أدرك الراوي بأن مشاعره لم تمت بل مدفونة تحت رمال من اللامبالاة فإذا به تنتفض بعد تجربة السباق. وبعد تشجيعه(بلا وعي) للحصان تيدي، قوة الفرح كسرت الحاجز الذي كان بينه وبين الآخرين رغبته في التواصل مع الآخرين واختبار تجارب أخرى. (فهمت أن عاطفتي همدت ببساطة، وأنها انتهكت تحت أقدام الأوهام الأجتماعية، تلك الرؤية المثالية للرجل الجنتلمان، ومع ذلك، وفي داخلي أيضا، وفي أعمق أعماقي في تلك الآبار والقنوات المطمورة كانت سيول الحياة المحمومة تتدفق، كما هو الحال مع الجميع). (لم أكن قادرا على تصور أن حيازة مبلغ من المال بإمكانها أن تلهبني هكذا، أو أن في وسع امرأة أن تثيرني بهذه الطريقة. لاشيء ، لم يكن في قدرة أي شي أن ينتزعني من خمول مشاعري، أو أن يشعل في حماسة مماثلة).

يتكسر الحاجز البشري بين الراوي والناس فيخرج الى المنتزهات العامة ويعاين الناس ويشعر بظروفهم وبالفروق بينهم وبين ابناء طبقته البرجوازية ويحاول سد فراغ الوحدة الذي يشعر به، يبدأ هنا بملئ هذا الفراغ عن طريق محاولة اغداق المال على طفل فقير يشاهد الألعاب ولايملك النقود لللعب او عن طريق الجلوس مع أسرة على نفس الطاولة في إحدى الحانات الفقيرة.

ساعات قليلة كانت كفيلة بتوفر إمكانية تحول في شخصية الراوي المتتبع للحدث يلاحظ التغيير بين شخصية الراوي عندما كان في ميدان السباقات يراقب المرأة وبين شخصيته بعد أن التحم مع الجمع وخبر تجربة الحماسة والفوز،  اختلاف الناحية الحسية بشخصية بطل الرواية الذي حاول محاولة فاشلة بعد الفوز في كسب ود الأسرة البسيطة التي تجنبته بسبب شعورهم بأنه احد أبناء الطبقة النبيلة وان مكانه ليس في هذه الحانة المتواضعة.

(لقد كان صحيحا فعلا أني عشت دون أن اتجرأ على الحياة، وأني جعلت على نفسي قناعا بل واختبأت منها. ولكن هذه القوة الحبيسة رأت الآن النور والحياة، تلك الحياة الغنية والقوية التي تمتلكني. والآن أعرف أني مازلت ملكا لها). وهنا يبدأ فصلا آخر في الرواية عندما يقرر مصاحبة إحدى الغانيات تعيسات الحظ والظروف بهدف مساعدتها ماليا.

وهنا يتخذ موضع المحلل النفسي حيث يصف لنا قساوة ظروفهن والمآسي التي تحيط بهن وسبب توجه الرجال نحوهن

(بعض البغايا، من بين الأشد فقرا وبؤسا بغايا لم تكن لهن أسرة خاصة بهن ينمن نهارا على الحشايا ويتسكعن في الليل دون هوادة ليقدمن في العتمة لأي شخص وفي أي مكان اجسادهن النحيلة المتسخة والمنهكة مقابل قطعة من النقود، تلاحقهن أعين رجال الشرطة او يتحرشن بهن الجوع اسوة بأي متسكع، لذلك يتجولن باستمرار داخل الظلمة، كطرائد او صيادات في الآن نفسه. ومثل كلاب جائعة كن يتقدمن رويدا رويدا كأنهن يشتممن الهواء نحو الساحة المضاءة، بحثا عن ذكر او متسكع تائه لينتزعن منه مقابل المتعة التي يقدمنها له أي مبلغ يكون كافيا لشراء بعض النبيذ الساخن في حانة بائسة حتى يحافظن على تلك الشغلة المضطربة فيما تبقى من حياتهن، شعلة ما تلبث ان تنطفئ سواء في احد المستشفيات او احد السجون).

(لقد فهمت فجأة مايدفع بالرجال نحو تلك الكائنات، فهمتُ أنه من النادر أن يكون الدافع هو حرارة الدماء وحدها أو اندفاع الرغبة وحده بل هو الخوف من الوحدة غالبا، والخوف من تلك العزلة الفظيعة التي تفصل بين البشر عادة، عزلة كانت عاطفتي المتقدة قد شعرت بها لليوم الأول وللمرة الأولى).

وبعد ذلك يكتشف ان هذه الغانية كانت فخا لابتزازه ماليا حيث تستدرجه الغانية الى عصابتها رجلان وامرأة، ورغم قدرته على الهرب إلا انه لا يهرب رغم المعادلة الغير المتكافئة بين الطرفين

والغريب في المشهد المتشبع بالإثارة والترقب هو تمتع الراوي بالشعور بالخطر واستسلامه.

واخيراً ينتهي الموقف باعطاء الراوي مئتي كرونة للرجلين وهنا يتبدل الموقف تماما تعترف المرأة بأن زبونها لم يلمسها مبدية تعاطفها.

وهنا يعلق الراوي على كلمات المرأة (أبانت عن طيبة كامنة في الشر ورغبة مبهمة لتحقيق العدالة).

يكتشف الراوي بعد كل هذه المغامرات في الليلة العجيبة أن متعة الإنسان تزداد بالعطاء، فيذيب الحاجز الجليدي بينه وبين الآخرين ويتحرر من برودة المشاعر التي كان سببها انعدام الطموح واهتمام ابناء طبقته بالمظهر دون الاهتمام بالجوهر.

وعند قرائتي لنهاية الرواية تذكرتُ المقولة الشائعة (ما استحق أن يولد من عاشَ لنفسه فقط).

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى