التحوّل في السّياسة الأميركيّة تجاه الشّرق الأوسط
اتّسمت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بالشعبوية اليمينية، وذهبت بعيداً في سياساتها عن النّمط التّقليدي المؤسّسي والثّوابت في سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية. السياسة “الترامبية” زادت من حدّة التوترات والصراعات في منطقة الشرق الأوسط. وبعد مضي بضعة أشهر على تنصيبها، تسعى الإدارة الحالية إلى خفض الصّراع في المنطقة وتحقيق أكبر قدر من الاستقرار.
من الواضح أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعطي أولوية لتفعيل الأداة الدبلوماسية بشكل أكبر، بهدف تحقيق أهدافها وأولوياتها. رغبة إدارة بايدن في الاستقرار وخفض الصراعات جاءت على حساب منطلقاتها الديمقراطية في التعامل مع الأنظمة المنقوصة الشرعية الديمقراطية، والتي توصف بالمستبدة والديكتاتورية، ما دامت تقبل بنفسها أدوات وظيفية للسياسات الأميركية في المنطقة.
وفي حال ذهب نظام ما بعيداً من السياسة الأميركية، لوحت الولايات المتحدة بسياسات مختلفة تجاهه، بذرائع انتهاكات حقوق الإنسان أو تهديد السلم والاستقرار الدولي؛ فمعيار السياسة الأميركيّة يستند في الأساس إلى مصالحها في المنطقة، بغض النظر عن طبيعة النظم السياسية التي تتعامل معها.
المتغيّر في إدارة بايدن الديمقراطية هو تراجع الثّقة بالنّظم المتحالفة معها في المنطقة. يرجع ذلك إلى خشيتها من تغير تلك الأنظمة، نتيجة التقلّبات المتسارعة واحتمال سقوط نظم متحالفة معها واستبدال نظم معارضة للسياسات الأميركية بها، ما قد يؤثر في مبيعات السلاح الأميركي لدول حليفة لها في المنطقة، انطلاقاً من فرضية تغيّرها المفاجئ.
في ضوء المتغيّرات والتحوّلات في المنطقة خلال العقد الأخير، يبدو أنّ إدارة بايدن تعيد دراسة المصالح الأميركية التقليدية في المنطقة وتقييمها، وهي النفط و”إسرائيل” وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية، التي اعتبرت من الأولويات الاستراتيجية الأميركية الثابتة.
في حال صحّت تلك الفرضية، فإن الإدارة الأميركية قد تتجه إلى تبني مجموعة من السياسات في الشرق الأوسط، تبتعد نسبياً عن سياساتها التقليدية. فشلت الإدارات الأميركية السابقة في مواجهتها مع المناوئين لها ولسياساتها في المنطقة، ولا سيّما إيران و”حزب الله” و”حماس”، من خلال دعمها المطلق لـ”إسرائيل” والسعودية والإمارات، وتبنّيها سياسة العقوبات والحصار، ودعمها العدوان الإسرائيلي المتكرر على فلسطين ولبنان وسوريا وإيران. وعلى أثر هذا الفشل، تشكّل محور قوي في المنطقة، على قاعدة مواجهة العدوان الإسرائيلي والانتصار لفلسطين، ما شكّل تحدياً لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
الإدارة الأميركية الحالية استخلصت العبر من فشل سابقاتها، ويبدو أنَّها تتّجه إلى تبني سياسات غير صفرية، وستسلّم بحقيقة ضعف قدرتها على هزيمة خصومها في المنطقة وتوجيه ضربات قاضية لهم، كما يرغب حلفاؤها (“إسرائيل” والسعودية والإمارات)، ولكنها لن تسلم لخصومها، ولن تتخلى عن حلفائها بكل تأكيد.
السياسة الأميركية تتجه إلى إدارة أكبر “للتحديات” في المنطقة، للحد من المزيد من التدهور والصراعات المسلحة، ولن تسعى لإيجاد حلول جذرية للتهديدات في المنطقة، ليس لعدم رغبتها في ذلك، بل لعدم مقدرتها عليه، ولأنَّ سياسات الإدارات الأميركية السابقة ساهمت في زيادة التحديات والتهديدات لمصالح الولايات المتحدة، وعززت مكانة محور المقاومة وتياراته المختلفة، في مقابل تهشيم محور التطبيع والقضم من شرعيته ومكانته، ما أدى إلى تراجع اعتماد الإدارة الأميركية عليه والخشية من انهياره أو تغير سياساته، ما سيجبر الولايات المتحدة على إعادة التفكير في دعمه بالسلاح والتكنولوجيا، خشية انتقالها إلى جهات معادية أو استخدامها ضد المصالح الأميركية، في حال فرضت وقائع جديدة في المنطقة قد تؤدي إلى تحول في السياسات تجاه الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
السياسة الأميركية قد تتّجه إلى الحدّ من توسع محور المقاومة وتمدّده، والعمل على القضم من مكانته، والحد من نفوذه وتأثيره، بعد الفشل في كسره والقضاء عليه.
في الخلاصة، إنَّ إدارة بايدن تتجه إلى التعامل مع الواقع الذي تشكل بعد فشل السياسات الأميركية السابقة في التخلص من “التهديدات” في المنطقة من خلال استخدام الأدوات العسكرية والاقتصادية (الحصار والعقوبات)، ما يعني التسليم بالأمر الواقع وبقوة تيار المقاومة في المنطقة واستحالة هزيمته وإخضاعه.
في المقابل، تجد الإدارة الأميركية حلفاءها التقليديين في وضعية غير مستقرة، وتتراجع مكانتهم الإقليمية والدولية، وتشهد “إسرائيل”، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة، في ظلِّ تراجع مكانتها داخل الولايات المتحدة، واعتبار أصوات أميركية لها بأنها تحوَّلت إلى عبء أكثر من كونها حليفاً، ما سيدفعها إلى تجنّب سياسة حسم الصراعات والقضاء على تهديداتها في المنطقة، لتتبنى سياسة أكثر عقلانية وواقعية، تتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما تريده، ما سيجبرها على تفعيل أكبر للأداة الدبلوماسية، وممارسة ضغوط أكبر على حلفائها في المنطقة، ليس من أجل حل المشكلات جذرياً، بل لإدارتها، بما يؤدي إلى استقرار أكثر وصراع أقل ومصالح أميركية أفضل باستخدام الوسائل الناعمة أكثر من الأدوات الخشنة.