نجيب محفوظ في عصر العلم
يؤكد نجيب محفوظ أن العلم يُشبع في نفسه أشياء كثيرة غير عادية. الكتاب العلمي يعطيه الحقائق مقطّرة. ويؤمن تماما بأن العلم هو أعظم ما وصل إليه الإنسان، وهو لا يتعارض مع الأدب والفن والخيال، فذرة الفيزياء المعاصرة بغير استحضار تاريخ مجموع صورها لا يمكننا فهمها. ويرى أنه يصعب القيام بفصل معرفي بين بودلير وإينشتاين، لأن صور الأول تخلق لنا مناخا لاستيعاب معادلات الثاني.
وعلى الرغم من ذلك التحق نجيب محفوظ بالقسم الأدبي بالمرحلة الثانوية (ولم يلتحق بالقسم العلمي)، ثم التحق بكلية الآداب قسم فلسفة (ولم يلتحق بكلية العلوم). وهو يرجو أن يأتي اليوم الذي نتفق فيه جميعا على أن العلم وحده هو ديوان العرب. ويعترف أن خلاصات العلوم المكتوبة لغير المتخصصين كانت أمتع لديه من الفلسفة والأدب الحديث. وأن المتعة الجمالية التي يحصل عليها في كتب الفلك أو الطبيعة أكثر وأمتع مما يحصل عليه من الشعر الحديث.
ويعلن محفوظ أن قراءاته استقرت على الترتيب التالي: خلاصات العلوم أولا، كتب الثقافة العامة ثانيا، كتب الفلسفة ثالثا، الأدب والفن أخيرا. ولعل في روايته “المرايا” يظهر تأثره باهتماماته العلمية. وفي “أولاد حارتنا” قال العلم هو مستقبل الإنسان.
لقد تتلمذ محفوظ على سلامة موسى، ومنه تعلّق بالعلم والاشتراكية.
يقول لإحدى قارئات مجلة الاثنين (10 أبريل 1960) عندما سألته لو لم تكن أديبا، فماذا كنت تود أن تكون؟ قال: كنت أود أن أتخصص في العلم: في الطبيعة والكيمياء، باعتباره أساس الحضارة الحديثة، فآخذ مكاني بين صفوف العلماء الذين يصنعون الرخاء والرفاهية والحب والسلام للبشرية جمعاء.
ويسأله فؤاد دوارة (مجلة الكاتب يناير 1963) قراءاتك العلمية هل أثرت في مؤلفاتك؟ فيجيب: العلم يؤثر في منهج تفكير الأديب ونظرته للأشياء أكثر مما يؤثر في مؤلفاته. ويتضح هذا في المدرسة الفلسفية الطبيعية بصورة خاصة. أما القصص العلمية فيكتبها في الأغلب علماء مالوا للأدب مثل ه. ج. ويلز.
وما يهم نجيب محفوظ أن الناس تطبق العلم في الحياة، فيقول في حوار معه “مجلة الطليعة” مارس 1977: المهم أن يتشرب الناس المنهج العلمي والتفكير، ليس لتطبيقه في العلم، ولكن لكي يطبقوه في الحياة بصفة عامة، ليحل محل العقلية العشوائية.
كانت مجلة “الشباب وعلوم المستقبل” على وشك الصدور أثناء حواره مع مجلة “الطليعة”، فتمنى لها أن تهتم بأدب العلم مثل ما نجد في كتابات الدكتور أحمد زكي، وأمثاله من الذين يقربون المسائل العلمية للجمهور بطريقة مشوقة وممتعة، فتكون أمتع من القصص وأمتع حتى من الرحلات. إنها رحلة في ميدان عقلي، أمتع من رحلة في أماكن غريبة، فهذا هو أدب العلم.
أيضا رأى نجيب محفوظ أن تهتم المجلة بتصور العلماء، كل في مادته وعلمه، في الخمسين أو المائة سنة القادمة، وأثر ذلك على الإنسان، وكل هذا يدخل في حياتنا. ويؤكد أن أكثر قراءاته في كتب العلم المكتوبة للجمهور وليس للمتخصصين، وخصوصا في الطبيعة وفي الفلك وفي علوم الحياة التي يقرأها بشغف ومتعة حقيقية.
ويرى صاحب “ميرامار” أن يكون خطاب المجلة الجديدة “الشباب وعلوم المستقبل” موجهًا لأهل العلم من الشباب أكثر من غيرهم، وأن تعلّي مبدأ الاعتماد على النفس والأصالة النابعة من البيئة. وهناك مطالب نوجهها للدولة ومطالب للشباب، فالتي نوجهها للدولة أن الذي يتخصص في علم يجب أن تعطيه الفرص لأن ينمِّي تخصصه باستمرار من خلال العمل والمعايشة مدى العمر. (يعني لا يتخصص في حاجة ويشتغل في حاجة ثانية)، لا إنما خصوصا العقول التي لديها قدر من الابتكار أو الاستعداد نعطيها فرصة، حتى لا يهاجر الشباب. إنه يهاجر لأنه يجد أن موهبته هنا محكوم عليها بالإعدام أو بالروتين، فيهرب وينبغ بالخارج. كما نطالب الدولة بتقدير البحث العلمي ووضعه في منزله، ويجب أن يكون تقدير الباحث العلمي على رأس الذين نقدرهم جميعا، لأن من حقه هذا، بصفته صوت العصر، وبصفة عمله قائم على الذكاء وعلى الابتكار وهدفه الخدمة العامة.
أما طالب العلم فيطالبه محفوظ بعدما تتهيأ له الظروف، بالانغماس في بيئته ويكون في خدمتها، فلا يصح أن يتلقي علمه في أوروبا ولا يكون مناسبًا لبيئته في مصر، ولا يصح مثلا أن يقاوم البلهارسيا بأطباء ألمان، أو بما يدرس هناك. أنا عايش هنا ولا بد أن أعرف أنها تقاوم بطريقة، وهذه الطريقة أعرفها من خلال معايشتي للفلاحين وحياتهم وأخلاقهم، وأعرف ما هو الذي يستجيبون له والذي لا يستجيبون له، فيكون بحثي نابعًا من البيئة. كذلك أنا عندي حشائش ونباتات كثيرة يجب استغلالها، ولا يجب أن يكون كل الطب مستوردًا، وفي هذه الحالة ممكن أخدم ليس بلدي فحسب بل الإنسانية كلها بأشياء من هنا، فيكون تفكيرنا أصيلاً مبنيًّا على البيئة ودراستها وخلق التكنولوجيا الخاصة بها أو تطوير التكنولوجيا الأجنبية بحيث تنفعنا، فلا تبقى الحكاية كلها استيراد وتطبيق. يجب عقلك يشتغل لأن الآخرين هم ناس مثلك وعملوا حاجات كثيرة، ولا بد أن نعمل حاجات تختلف عنهم.
ويؤكد محفوظ أنه لا بد لنا أن نملك جهازًا علميًّا نعتني به عناية فائقة. إن جيش العلماء هو الذي سيقودنا نحو المستقبل، وليس شرطًا أن نكون الاتحاد السوفيتي في العلم أو الولايات المتحدة، يكفي أن نصبح الآن في مستوى الدانمارك.
وهو يؤمن بأن المتفوق في العلم له سيادة ستسير إليها بقدميك.
ويقول في حوار نُشر معه في “جريدة الأهرام” 21 يناير 1996 إن القرآن الكريم يطالب المسلمين في العديد من آياته بالنظر والتفكر قائلاً لهم: أفلا تنظرون.. أفلا تتفكرون.. أفلا تعقلون؟ إنه في خطابه لا يعطي معجزة تجعل الإنسان يؤمن به بل أنه يطلب مشاركة العقل فيقول له: انظر لترى آياتِ الله في نفسك وفي الكون لتصدق به، وبهذه الكلمة الصغيرة يدخل العلم والفلسفة في الدين بما يعين الإنسان في تقدير علاقته بالذات الإلهية، لذلك فإن العلم بهذا المعنى هو أكبر مفسر للدين وللذات الإلهية، والعلم في النهاية هو مفسر للكون والحياة إذن هو يعرف الخالق بطريقة غير مباشرة.