لماذا تراجعت حركة النهضة وشيخها عن سِياسات الهُجوم وانتقلت إلى الدّفاع والمُرونة البراغماتيّة؟
بعد تخفيف حزب النهضة للهجته تجاه الرئيس قيس سعيّد وإجراءاته الأخيرة، وتراجع عن تسميتها بالانقِلاب، ودعم الشّارع التونسي لهذه الإجراءات، وانحِياز الاتّحاد التونسي للشّغل، العمود الفقري للاستِقرار في البِلاد لدعمها، وفتور ردّ الفِعل الأردوغاني، يمكِن القول إنّ الرئيس التونسي قيس سعيّد خرج من الأزمة التونسيّة الفائز الأكبر حتّى الآن، وإنّ “الانقِلاب الدّيمقراطي” الحقيقي القادم بدأت إرهاصاته داخِل حزب النهضة أقوى أحزاب المُعارضة في البرلمان، ومن غير المُستَبعد أن يَنعَكِس قرارات “صادمة”، وعمليّة تغيير جذريّة في قيادة الحزب في مُؤتمره العام القادم المُفترض قبل نهاية هذا العام.
البيان الذي صدَر عن الاجتِماع الطّارئ لمجلس شورى حزب النهضة الذي انعقد يوم أمس (الخميس)، اعتِرافٌ بارتِكاب أخطاء يجب الاعتِذار للشّعب التونسي عنها، ودعا إلى تصحيح أداء الحزب، وإجراء المُراجعات الضروريّة، وتجديد برامجها في ضُوء “رسائل الشّارع”.
ولعَلّ التّراجع الأكبر هذا، الذي اتّسم بمُرونةٍ “براغماتيّة” غير مُتوقّعة، تمثّل في تصريحات الشيخ راشد الغنوشي التّصالحيّة التي قال فيها “يجب تحويل خطوات الرئيس قيس سعيّد إلى فُرصَةٍ للإصلاح، ويجب أن تكون مرحلة من مراحل التّحوّل الدّيمقراطي في البِلاد، واعتِماد الحِوار كوسيلة لحلّ جميع عناصر الأزمة الحاليّة”، دُون استِخدام كلمة “انقِلاب”.
أحداث 25 تمّوز (يوليو) كانت بمثابة الزّلزال الذي لم يَهُز تونس ومُؤسّساتها وعمليّتها السياسيّة، وتجربتها الديمقراطيّة فقط، وإنّما حزب النهضة أيضًا، من حيث كشفه “لحجمه الجديد” في الشّارع التونسي، وتسليط الأضواء على الانشِقاقات والتّشقّقات داخِله وخرجت إلى السّطح، وخاصّةً ثورة شبابه التّصحيحيّة الداخليّة، ومُطالبة بعض القِيادات الوزاريّة الشيخ الغنوشي بالاستِقالة والنّقد الذّاتي، وتفاقمت هذه الانشِقاقات، وعلا صوت أصحابها بعد الالتِفاف الشّعبي اللّافت حول الرئيس قيس سعيّد وإجراءاته.
هُناك عدّة أخطاء، أو سُوء تقدير، ارتكبته قيادة حزب النهضة لا يجب تغافلها مُطلَقًا:
الأوّل: حالة الانفِصام التي يعيشها الحزب وقِيادته عن الشّارع التونسي، أو مُعظمه، وعدم فهم التّغيّرات التي وقَعت فيه في السّنوات العشر الماضية وأبرزها حالة الغضب المُتنامية داخله تُجاه الاحزاب السياسيّة، وحزب النهضة على وجه الخُصوص، بسبب الانهِيار الاقتِصادي والفساد والشّلل والاحتِقان السّياسي، وتدهور قِطاع الخدمات العامّة من صحّة وتعليم ومُواصلات.
الثّاني: سُوء اختِيار الحُلفاء في البرلمان، والانشِغال في المُناكفات السياسيّة، وإشهار العداء للرئيس، ومُحاولة تهميشه وإذلاله، والسُّخرية منه، وسُوء تقدير قوّته، سواءً في الشّارع، أو على المُستوى الإقليمي.
الثّالث: الرّكون إلى الدّعم الخارجي، وترسّخ الاعتِقاد بأنّ الإسلام السّياسي ما زال قويًّا، وقادرًا على تحريك الشّارع العربي مثلما كان عليه الحال عام 2011، وكانت الصّدمة الكًبرى عندما تخلّت تركيا “مَرحليًّا” عن حزب النهضة، وبادر الرئيس أردوغان بالاتّصال بالرئيس سعيّد، والاكتِفاء بكَلامٍ إنشائيّ عن ضرورة الحِفاظ على الديمقراطيّة، وفي الوقتِ نفسه حُدوث تغيير في نهج محطّة “الجزيرة” ومُيولها إلى التّهدئة، وتخفيف الجُرعة الإعلاميّة المُعادية للرئيس والدّاعمة للنهضة إلى حُدودها الدّنيا.
الرابع: وسائل التواصل الاجتماعي و”نُجومها” لَعِبَت دورًا في إعطاء انطِباع خادع لحركة النهضة وقائدها الشيخ الغنوشي، يقول إنّ الشّارعين التونسي والعربي معها بالكامل، والتّطاول في الوقتِ نفسه على الرئيس سعيّد، وتصويره بالشّخص الضّعيف على طريقة “أشبعناهم شتمًا وفازوا بالإبل”.
الخامس: عدم القراءة الصّحيحة لمواقف المُجتمع المدني التّونسي ومُؤسّساته، وخاصّةً أهميّة ونُفوذ وتأثير الاتّحاد التونسي للشّغل، ورفضه مُنذ اليوم الأوّل لتوصيف الانقِلاب، والتّشكيك بتَفسيرات الرئيس للمادّة 80 من الدّستور التي استند إليها في “تشريع” إنجازاته بالتّالي، والتّأكيد على أنّ هذا التّفسير لم يُخالِف مُطلَقًا نصّ الدّستور ورُوحه.
السّادس: انشِغال قيادة حزب النهضة أو بعضها في التَّصدِّي للسيّدة عبير موسى، وتحويل البرلمان إلى حلبة مُلاكمة وتَلاسُن ضدّها، الأمر الذي هَزَّ صُورة هذه القِيادة في الشّارع التونسي، وقضَى على ما تبقّى من مِصداقيّة البرلمان، والأهم من ذلك دعم “تمرّد” هشام المشيشي، رئيس الوزراء على الرئيس، وإدخال البِلاد ومُؤسَّساتها في حالةِ احتِقانٍ سياسيّ غير مَسبوق.
بعد مُرور 12 يومًا، وانقِشاع غُبار “الانقِلاب” الذي لم يَعُد انقِلابًا، وبات يصفه البعض بالثّورة التصحيحيّة الديمقراطيّة، ونحن نتحدّث هُنا عن التّراجعات الأخيرة لمجلس شورى النهضة تحديدًا، فإنّ السّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ يظَل حول ملامح المرحلة المُقبلة.
يُمكِن الإجابة بحصر هذه الملامح بالنّقاط التّالية:
أ ـ عندما يقول الرئيس سعيّد أمس إنّه لا عودة إلى الوراء، ولا حِوار مع “خلايا سرطانيّة”، فإنّ هذا يعني أنّ قنوات الحِوار مع حركة النهضة ستَظل مسدودة في المرحلة القادمة، وربّما إلى ما بعد انعِقاد المُؤتمر العام للحزب، واختِياره قيادةً جديدةً لا يترأسّها الشيخ راشد الغنوشي.
ب ـ سيُشَكِّل الرئيس سعيّد حُكومةً جديدةً في الأيّام القليلة القادمة من الكَفاءات الشبابيّة وغير الحزبيّة، أهم أولويّاتها مُواجهة وباء كورونا، ومُكافحة البِطالة، والإصلاح الاقتِصادي.
ج ـ حُدوث تقارب بين الرئيس سعيّد والاتّحاد التونسي للشّغل، واحتِمال تبنّي الرئيس خريطة طريق الأخير، أو مُعظم بُنودها، لإنهاء الأزمة الحاليّة في تونس من جوانبها كافَّةً.
الشّعب التونسي هو الذي جاء بالرئيس سعيّد بعد حُصوله على 75 بالمئة من أصواته في انتِخابات أجمع العالم على نزاهتها وحُريّتها، وهو الذي التَفّ حول إجراءاته ووفّر له الدّعم لثقته به ونظافة يده ولسانه، وهذه القاعدة لم تفهمها حركة النهضة وقِيادتها طِوال العامين الماضيين للأسَف.
فعندما يُؤيِّد 87 بالمئة من هذا الشّعب الرئيس سعيّد وإجراءاته، ويَخرُج الآلاف في الشّوارع دعمًا له، (حسب الفايننشال تايمز والغارديان) فإنّ الحقيقة النّاصعة مَكتوبةٌ على الحائط ولا تحتاج إلى تفسير.
الإسلام السّياسي يتراجع في تونس، أسوى ببُلدانٍ أُخرى، ولا بُدَّ من الاعتِراف بهذه الحقيقة وإجراء مُراجعات ونَقد ذاتي واسع وصريح والابتِعاد عن المُكابرة وبعض الفتاوى لأُناسٍ يعيشون في الماضي، والخارج أيضًا، ولا يَعرِفون “تونس اليوم”، والمُتَغيِّرات الضّخمة داخِل نسيجها السّياسي الاجتِماعي، وربّما يُفيد التَّذكير بأنّ الرئيس قيس سعيّد ليس الرئيس زين العابدين بن علي.. واللُه أعلم.