«عند تلاشي الضوء» رواية المانيا ما قبل الجدار وما بعده… وما خلفه
تسرد رواية «عند تلاشي الضوء» التي حازت جائزة الكتاب الالماني قصص اربعة اجيال المانية ووقائع تمتد من العام 1952 الى العام 2001. ومنذ صدورها في المانيا، احدثت الرواية ضجة كبيرة في الاوساط الادبية والسياسية والإعلامية بصفتها ملحمة التاريخ الالماني الحديث.
«بدَت له السيّارات أنظف من ذي قبل. أنظف؟ في شكلٍ ما ألوانها أكثر بهجة. أكثر بلهاً. كانت السماء زرقاء، وماذا عساها أن تكون غير ذلك؟» يبدأ الألماني أويغن روغه روايته «عند تلاشي الضوء» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015) الحائزة جائزة الكتاب الألماني، بسخرية وتهكّم وهجوم فوري: يُعلِم الكاتبُ الألمانيُّ قارئه أنّه يرفض أساليب الوصف الروائي، ويرفض الكلام الفارغ على بدهيّات الحياة، ويرفض أن يبدأ نصّه بسردٍ هادئ مبتذل. ويحرص الكاتب على مدار روايته أو وثيقته التاريخيّة إن أُجيز استعمال هذا التعبير، يحرص على سرد الوقائع والحالات والشخصيّات والأحداث كما هي، فلا هو يجمّلها ولا هو يتدخّل في مجراها، فنرانا نقرأ في رواية «عند تلاشي الضوء»، كاتباً نفض يديه من روايته ورفع عن كاهله أعباءها وترك شخصيّاته تسرد نفسها بنفسها، وتسرد في الوقت نفسه الأحداث والأمكنة والأزمنة.
ورواية روغه رواية عائلة، رواية جدار، رواية ألمانيا على ممرّ خمسين عاماً ومن منظار عائلة ألمانيّة عاشت في ألمانيا الشرقيّة. انها رواية التلاشي والانهيار والسقوط، رواية اضمحلال عائلة تزداد انهزاماتها مع كلّ جيل، رواية تشتّت ذهني وفكري وحياتي عانى منه أهل ألمانيا الشرقيّة بسبب اتّحاد اشتراكي سمّى الغرب فاشيّة وانغلق على نفسه ونسي أن يعيش.
عائلة تسير نحو الهاوية
«سيرة عائلة» أو saga هو أقلّ ما يمكن قوله عن رواية روغه التي ترافق عائلة أومنيتزر على أربعة أجيال، رواية مؤلَّفة من نحو أربعمئة وخمسين صفحة ترافق شارلوته الجدّة وزوجها فيلهلم، وابن الجدّة كورت أومنيتزر وزوجته إيرينا. وللجيل الثالث على التوالي تكمل الرواية مع ألكسندر أومنيتزر ابن كورت وإيرينا ومن بعده ابنه ماركوس أومنيتزر الذي رزق به وهو بعد في الثانية والعشرين من عمره. أربعة أجيال من النساء والرجال ترافقهم الرواية… ولكن رويداً. لا ترافقهم الرواية، بل إنّهم هم الذين ينسجون حبالها. لا تخبر الرواية قصّتهم بل هم الذين يحوكونها ويقدّمونها ويقدّمون معها لوحةً هائلة عن ألمانيا 1961 ما قبل جدار برلين، وألمانيا الجديدة ما بعد سقوطه عام 1989.
وكلّ فصلٍ يسرده صوت روائي من الأصوات الستّة، كلّ فصل هو وجهة نظر أحد أجيال عائلة أومنيتزر الألمانيّة التي تهجّرت مع الجدّين من ألمانيا إلى المكسيك ثمّ عادت لتستقرّ في ألمانيا الشرقيّة أيّام انقسام برلين وألمانيا.
ويراقب القارئ تغيّر المعتقدات والايديولوجيّات داخل عائلة أومنيتزر، تغيّرات شهدتها ألمانيا وشهدها العالم بأسره مع مرور السنين. تغيّرت معتقدات العائلة مع مرور السنوات تغيّراً جذريّاً ويمكن وصفه بالمنحدر. فالجدّة وزوجها الملتزمان في الحزب، الرفيقان المنغمسان تماماً في نشاطات الحزب والداعمان للاشتــراكيّة ولأفكار ستالين ومن بعده رؤساء الاتّحاد السوفياتي، الجدّان العاملان من أجل إعلاء دور الحزب ونشاطاته وأهمّيته، هما شخصان محافظان مرتبطان بالحزب ويحتقران ما دونه وما خارجه، أي ألمانيا الغربيّة وبلاد الغرب كلّها. أمّا كورت ابن شارلوته فهو أقلّ التزاماً منهما في الحزب، بالأحرى ليس عضواً في الحزب بتاتاً وينتقدهما على حبّهما الأعمى للحزب على رغم كلّ المصائب التي جلبها لهما رجال الحكم، ولكنّه لا يجرؤ على ابداء رأيه صراحة وعلى الملأ في ألمانيا ديكتاتوريّة مخافة أن يعود إلى المعتقل والمنفى. ويظهر كورت عالم التاريخ البحّاثة كبداية التمرّد على الحزب في جيل لم يعهد هذا النوع من التفكير التحرّري. أمّا ألكسندر، ابن كورت، فهو قد رمى الحزب ومعتقداته وقوانينه عرض الحائط ولم يأبه بها، وهرب للعيش في ألمــانيا الغربيّة قبل سقوط الحـائط، ثمّ بقي هناك بعد سقوطه. وألكسندر هو الراوي الأوّل والأخير الذي يؤطّر سردُه الرواية، هو حاضر العائلة الوحيد، فالجدّة وزوجها والأمّ ماتوا جميعهم وبقي الأب شبه مجنون، عاجزاً عن الكلام أو التفكير هو الذي كان أستاذاً مهمّاً في زمنه.
أمّا ماركوس، ابن ألكسندر، فهو المتمرّد الأخير الذي يأتي ليتوّج مسيرة العائلة نحو الهاوية، هو الولد المنسيّ من أبيه المتروك فريسة السكر والمخدّرات والضياع وعدم الرغبة في التقدّم أو التغيير. بذلك تكون سلالة آل أومنيتزر قد وصلت إلى الحضيض مع ابن الحفيد ماركوس.
وتماماً كما في العائلات كلّها، يحاول فيلهلم ارشاد كورت الذي أصبح أباً ويحاول بدوره إرشاد ألكسندر، ولكنّها إرشادات تبوء بالفشل، فزوج الجدّة فيلهلم يشعر بأهمّيته وتفوّقه على كورت لأنّه حارب وقاتل من أجل الحزب ويعجز عن نقل حبّه للحزب إلى كورت. ويشعر كورت بتفوّقه على ألكسندر لأنّه متعلّم ويحاول عبثاً أن يقنع ابنه بمواصلة علمه. أمّا ألكسندر فهو لا يعرف ابنه وبالكاد يفكّر فيه أو يذكره. فتنتهي قصّة عائلة أومنيتزر التي يرافقها القارئ بتشتّت تامّ عبر وفاة شارلوته وفيلهلم وإيرينا، ومرض كورت وألكسندر وضياع ماركوس!
تنقل هذه الرواية قصّة عائلة أومنيتزر، ولكنّها تنقل أيضاً تاريخ ألمانيا وشعبها وحقبة بالغة الأثر في تراثها، تنقل هذه الرواية نمط عيش شعب قبل الجدار وبعده، وخلفه. تروي محاولات الناس الكثيرة لبناء وطن أو الهرب إلى الجهة الأخرى.
وكلّ فصل ترويه إحدى الشخصيّات يجري في سنة معيّنة، وتمتدّ السنوات من العام 1952 حتّى العام 2001، مع وجود سنوات لم يتمّ ذكرهــا ولكنّ السرد أوضح مجرياتها. والعام 2001 هو العام الذي تــبدأ به الرواية بصوت ألكسندر وتنتهي به، مع وروده مرّتين في وسط السرد بصوت ألكسندر طبعاً.
والسنة الأخرى المفصليّة التي تسرد أحداثها الشخصيّات كلّها، هي سنة 1989، وبالتحديد 1 تشرين الاول (أكتوبر) 1989 تاريخ ميلاد فيلهلم. ويشكّل هذا التاريخ المحور الذي عليه تتأسّس الرواية، تاريخ يتكرّر بين كلّ فصل وفصل، بين كلّ عام وعام.
إنّ الشخصيّات كلّها تتحدّث بصوتها عن يوم 1 تشرين الاول 1989، وبتجميع شذرات الأخبار تكتمل الصورة أمام القارئ ليعرف تماماً ماذا حصل خلال هذا اليوم العظيم الأهمّية، ليفهم مسيرة عائلة ودولة وشعب.
إنّ العام 1989 عام مهمّ على صعيد العائلة، فخلاله يهرب ألكسندر إلى الغرب، وخلاله يموت فيلهلم، ويظهر أنّ شارلوته هي التي سمّمته. أمّا على الصعيد الأكبر والأعمّ، فهو العام الذي يسقط خلاله جدار برلين.
واختيار العامين 1989 و2001 ليس اعتباطيّاً، فهما تاريخان حدّدا نهاية حقبتين بالغتي الأهمّية في تاريخ البشريّة. فعام 1977 بُني الجدار وبعده بإثني عشر عاماً، أي عام 1989 بالتحديد سقط الجدار، من هنا أهمّية هذا التاريخ. وبعد سقوط الجدار بإثني عشر عاماً، أيّ عام 2001 سقط صاروخان على أميركا وبدأت حقبة جديدة بين أعداء جدد. وكأنّ الرقم 12 هو رقم النهاية، رقم ملعون، رقم يشتّت العائلة والوطن.
وهذان التاريخان أساسيّان على صعيد عائلة أومنيتزر، فعام 1989 يموت زوج الجدّة وتبدأ سيرة العائلة بالانحطاط، وعام 2001 سيموت ألكسندر ويختفي معه أيّ أثر للعائلة باعتبار أنّ ماركوس لم يتربَّ في العائلة ولم يُدخله إليها ألكسندر.
عائلة تدخل التاريخ
تتجلّى هذه الرواية رائعة بتفاصيلها، متينة في سبكها، على رغم ضعف ترجمتها إلى العربيّة والأخطاء التي فيها. وتبدو قصّة عائلة أومنيتزر شبيهة بقصّة الكاتب أويغن روغه نفسه الذي يتقمّص دوره ألكسندر، فكلاهما ولد لأب ألماني أستاذ في التاريخ، وكلاهما عايش فترة ما قبل الجدار وما بعده، والضياع والتشتّت الذي رافق تلك الفترة من تاريخ ألمانيا.
«عند تلاشي الضوء»، رواية رائعة من روايات العائلات الكبيرة التي تسير نحو اندثارها، رواية تتوقّف عند النفس البشريّة وتصفها ضمن إطارها التاريخيّ وحقبتها وزمانها ومكانها. رواية عائلة جديدة تدخل التاريخ وتحفر فيه اسمها. فتتقدّم عائلة أومنيتزر وتجلس إلى جانب عائلة بوينديا للكاتب اللاتيني غابرييل غارثيا ماركيز، وتجعل لنفسها مكاناً هادئاً أنيقاً إلى جانب عائلة لو غيبار (الفهد) للكاتب الإيطالي جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا، فهنيئاً للتراث العالمي بعائلة جديدة تثريه وتقدّم له صفحات أنيقة من الأدب الجميل.
صحيفة الحياة اللندنية