«بابا نويل» والملف النووي الإيراني
منذ أكثر من مئة عام، يحل «بابا نويل»، الرجل الطيب السمين ذو الرداء الأحمر المطعّم بالفرو، ضيفاً عزيزاً على الأطفال بلحيته الطويلة البيضاء، حاملاً على ظهره زكيبة الهدايا، حتى صار أيقونة عالمية تكتسح الحدود السياسية والعوائق الثقافية وترسخ مكانها بثبات في وجدان الأطفال الذين ينتظرونه قريباً. وقد تحولت ظاهرة بابا نويل إلى شأن تجاري مطعم ببعض القيم التربوية والدينية، إذ تعلن المحال والحوانيت عن حلول أيامه من كل عام لتنشيط المبيعات، فتجد صورته أو مجسمه على واجهاتها قبيل حلول الموسم. وفيما نجحت الرأسمالية الغربية عبر سنوات طويلة من التراكم في تسليع «بابا نويل» وظاهرته عبر تحويله إلى موظف دعاية لديها، فإن المساجلات السياسية في منطقتنا بين الأفرقاء السياسيين حول المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى بشأن ملفها النووي قد اكتسبت هي الأخرى، خلال وقت قياسي، طابعاً «بابا نويلياً» بامتياز. ومرد ذلك أن هذه المساجلات تستبطن منطق توزيع الهدايا والمكافآت على غرار ما يقدر عليه الرجل ذو الرداء الأحمر، فخصوم إيران ومؤيدوها في آنٍ معاً يطلقون عنان الخيال لمعنى المفاوضات ونتائجها والمكافآت التي سيحصلون عليها حتماً في نهايتها.
يعتقد بعض خصوم إيران أن طهران تنازلت بالفعل في جولات التفاوض السابقة كلها، وأن استمرار التفاوض سيمكّن الغرب من انتزاع المكافآت والجوائز من إيران واحدة بعد الأخرى، حتى لن يتبقّى لطهران في النهاية سوى التوقيع على صك استسلام كامل وغير مشروط وفي كل الملفات! في المقابل، يذهب بعض حلفاء إيران إلى أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها عجزت عن إلحاق الأذى بها، بل إنها حتى «تقوي» الاقتصاد الإيراني وترسخ تحوله إلى «اقتصاد مقاوم»، ما يعني أن استمرارها يعود على إيران بالفوائد فقط. ويصرح هؤلاء أن الولايات المتحدة الأميركية رضخت أمام «صانع السجاد الإيراني» ومهارته، فاستسلمت له في الملفات كلها واعترفت بدوره في المنطقة ومعه أيضاً البرنامج النووي الإيراني من دون قيد أو شرط!
هكذا، جعل الجدل السياسي في منطقتنا حول المفاوضات النووية بين إيران والغرب من مواسم التفاوض احتفالات «بابا نويل» مستمرة؛ بمنطق الأمنيات والحصول على الهدايا والمكافآت من دون الحاجة إلى بذل مجهود كبير في مقابلها.
منطق خصوم إيران
ينسى خصوم إيران من العرب في مساجلاتهم النووية مجموعة من الحقائق الأساسية التي لا يستقيم المنطق التحليلي من دون إدراكها والإحاطة بجوانبها. أولاً، تعرف المنطقة اختلالاً واضحاً في ميزان القوى، وإيران ـ مع برنامج نووي أو بدونه – نجحت، بمهارة واضحة بالترافق مع غفلة عربية لا يمكن إنكارها، في استثماره لمصلحتها. تكرّس هذا الاختلال منذ حرب الكويت 1990-1991 مروراً باحتلال العراق 2003، وتفاقم مع تمكّن طهران من مفاصل الدولة والسلطة في العراق بعد احتلاله، ثم بلغ ذروته مع تحالف دمشق الحصري مع طهران وحرب لبنان 2006. على ذلك لا يمكن لأي مفاوضات أن تصحح اختلالات جيو – سياسية إلا في أعقاب هزيمة عسكرية كبرى للطرف المتفوق (درس تاريخ كلاسيكي)، وهو ما لم يحدث في حالة إيران. ثانياً، صمدت إيران أمام تلويحات بحرب شاملة عليها من طرف الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، الذي احتل جوارها الجغرافي أفغانستان 2001 والعراق 2003، واحتفظ بقواعد عسكرية وعلاقات وطيدة في الجغرافيا المحيطة بإيران كلها، بحيث أصبحت الأخيرة نظرياً في كماشة أميركية. ومع ذلك، لم يذهب جورج دبليو بوش الجمهوري إلى الحرب معها لاعتبارات يطول شرحها وتخرج عن موضوع المقالة، وللأسباب ذاتها لم يرد أوباما الديموقراطي يوماً محاربة إيران، بل لطالما فضّل مفاوضتها. ولما كانت الحال كذلك، ننتقل إلى الحقيقة الثالثة وهي أن إيران قطعت خلال عشرات السنين أشواطاً غير منكورة على طريق برنامجها النووي، ما كرّسه أمراً واقعاً. وبالتالي لا تستطيع أميركا أن تنتزع، بالمفاوضات النووية أو غيرها، كل ما عجزت عن انتزاعه بالتلويح بالحرب، وهو أيضاً درس تفاوض كلاسيكي. على ذلك، يخرج استدعاء منطق «بابا نويل» ومفاده أن إيران ستتنازل، وفقط في المفاوضات النووية، المساجلات الدائرة من حيز المعقولية، ويدخلها من أوسع الأبواب في خانة التمنيات.
منطق حلفاء إيران
بدورهم، ينسى حلفاء إيران مجموعة من الحقائق، التي لا يستقيم التحليل بدوره من دونها. أولاً، تتعرض إيران لعقوبات اقتصادية ضخمة، تؤثر بشكل أو بآخر في قرارها السياسي، لما هو معلوم بالضرورة من ترابط السياسة والاقتصاد. فإذا كانت العقوبات الاقتصادية «تقوي» إيران وتمنحها المناعة، فلماذا تطالب إيران برفعها بإلحاح؟ مع العلم أن منطق التفاوض يدور حول نزع إيران قطعة من برنامجها النووي مقابل قطعة تنزع من العقوبات الاقتصادية. ثانياً، راكمت إيران حضوراً ونفذت من الثغرات في المنطقة، ولكن غالبية الأطراف الفاعلة في المنطقة تناوئ إيران علناً أو مداورة (الدول العربية الخليجية وتركيا وإسرائيل)، ما يعرقل موضوعياً الحديث عن نصر نهائي لإيران، فالنصر يتطلب اعتراف الخصوم بالهزيمة. ثالثاً، تشبه اللعبة الدائرة في الشرق الأوسط لعبة روليت – الشرق الأوسط بمعنى من المعاني كازينو كبير- يملك اللاعب الإيراني فيها أكواماً من الشرائح البلاستيكية في مقابل خصومه، ما يجعله رابحاً حسابياً ونظرياً، ولكن لحظة الربح الحقيقية في روليت القمار هي لحظة قيام صندوق الحسابات في الكازينو – أميركا – بتحويل الشرائح البلاستيكية لدى اللاعب إلى أموال حقيقية. بمعنى أن حضور إيران الإقليمي المتزايد لن يتقنن إلا بالضوء الأخضر الأميركي، وبالتالي فإن سعي إيران إلى التفاوض مع أميركا حثيث ومفهوم ومنطقي، وليس كرم أخلاق من اللاعب الإيراني تجاه أميركا المتلهفة للاتفاق بأي ثمن وبأي شرط. رابعاً، ينسى حلفاء إيران في مساجلاتهم أن التفاوض يدور حول البرنامج النووي الإيراني حصراً، وأن البرنامج النووي للأطراف الست المقابلة ليس محلاً للتفاوض بأي شكل من الأشكال. أي أن ما يدور التفاوض عليه هو «تنازلات» إيرانية نووية لا غربية، حتى ولو اختلفنا تحليلياً على حجم هذه «التنازلات» الإيرانية. خامساً، على حد علمي لم تحتل إيران واشنطن حتى الآن، ولم تفلح بعد في نصب صواريخها في شبه الجزيرة الكوبية ولا نشر حاملات طائراتها قبالة السواحل الأميركية، وكذلك لم ينخرط أيٌ من كندا أو المكسيك في تحالف مع إيران في مواجهة أميركا. حتى اللحظة، لم تلجأ رموز المعارضة الأميركية إلى طهران، ولم يرفع المحتجون الأميركيون على واقعة فيرغسون شعارات الثورة الإيرانية، ولم تغزُ التكنولوجيا الإيرانية المتطورة الأسواق الأميركية. ولما كان أيٌ من تلك المؤشرات لم يتحقق، حتى الحين، فلماذا تستسلم واشنطن إذاً لتفرض عليها طهران شروطها في الملفات النووية والإقليمية كلها، سواء أجاد «صانع السجاد الإيراني» حياكته أم لم يفعل؟
الخلاصة
تلعب العقلية الريعية النفطية دورها المؤثر في ترسيخ منطق «بابا نويل» في المساجلات السياسية الدائرة بين حلفاء إيران وخصومها، فما على دول منطقتنا المعتمدة على تصدير النفط – بمن في ذلك خصوم إيران العرب وإيران ذاتها – إلا استخراج ما في باطن أرضهم من ذهب أسود، ومن ثم مبادلته بالسلع والخدمات التي تشتهي الحصول عليها، ليس في موسم «بابا نويل» فقط ولكن في فصول السنة كلها في الواقع.
يجسد السجال السياسي بين حلفاء إيران وخصومها مفارقة كبرى، إذ يرى طرفا المساجلة، كل بطريقته، في الرئيس الأميركي باراك أوباما «بابا نويل» من نوع فريد. صحيح أنه ليس سميناً ولا أبيضَ ولا يظهر حتى في الصور حاملاً زكيبة هدايا، لكنه سينتزع من إيران كل شيء، ويجبرها على التنازل، كما هو منطق خصوم إيران، أو سيستسلم أمام «حائك السجاد الإيراني» ويسلم له كل المكافآت في الملفات كافة من دون مقابل، كما هو منطق حلفاء إيران. ينسى المساجلون أن أميركا ليست «بابا نويل» بأي حال، وأنها كإمبراطورية في طور الأفول تتلاعب بكل الأطراف لتحقيق مصالحها المتصادمة في كثير من الأحوال مع مصالح شعوب المنطقة. ومثل كل طفل بلغ العاشرة من عمره أو أقل، سيأتي الوقت الذي سيختبر فيه المساجلون، عاجلاً أم آجلاً، أنه لا وجود حقيقياً «لبابا نويل».. لا في المفاوضات النووية ولا في العالم الواقعي!
صحيفة السفير اللبنانية