سامح فايز من مأزق «الإخوان» إلى فخّ التفلّت
أراح الكاتب المصري سامح فايز كل من يطالع روايته الأولى «جُحر السبع» (دار سما – القاهرة) حين كتب على غلافها «رواية واقعية»، ليغرق بعدها في تفاصيل مشاهد متتابعة من تجربة حياتية مباشرة كان أتى على ذكر جانب وفير منها في سيرة ذاتية لافتة عنوانها: «جنة الإخوان… رحلة الخروج من الجماعة»، أظهر فيها قدرة ملموسة على الحكي ومداعبة الجمال الأدبي، فأطلق بها أولى خطواته نحو عالم الساردين.
في «جُحر السبع» يدفعنا فايز إلى طرح السؤال القديم: هل الأدب مجرد مرآة تعكس الواقع؟ أم فيه من الخيال والتخييل ما يجعله ليس مجرد نقل أمين لما يجري لشخصيات تزخر بها الحياة من مواقف وتصاريف وتدابير؟ بالطبع تجاوزت نظريات النقد الأدبي مدرسة «الإنعكاسية» تلك، وهو تجاوز ليس منبعه الرغبة في الاختلاف والتجديد، إنما هو نزول على حقيقة مفادها بأنه لا يوجد عمل سردي يخلو من اختلاق.
إلا أن الكاتب هنا لم يعنه ما وصل إليه النقاد، وانشغل فقط بتصوير واقع عاشه وكابده، متّبعاً المقولة الذهبية التي صكّها نجيب محفوظ حين نصح الأدباء: «لا تكتبوا عما لا تعرفونه»، من دون أن يقصد هنا أن يسجل الأديب واقعه، إنما ضروري أن يكون ملماً بالأمكنة والأزمنة والشخصيات والسياقات التي يتحرك خلالها حتى وهو يطلق العنان لخياله، مثلما فعل هو في رائعته «ملحمة الحرافيش»، التي انطلق فيها لنحت عالم مواز بأكمله.
هذه الواقعية تجسدت عند سامح فايز في أربعة أمور، الأول هو لغة الواقع المحايدة، المقتصدة في الجمال غالباً، سواء عبر الحوار الذي يدور بين شخصياته باللغة الدارجة، وبما تحويه من مفردات جديدة تزخر بها مواقع التواصل الاجتماعي. أما الثاني فهو العالم الذي يتحرك فيه، ويتقاطع من سيرته مع جماعة الإخوان، كما سبقت الإشارة، بما فيه من رؤى وأسئلة وتصرفات سواء في الريف أو المدينة أو ما بينهما حيث المدينة المتريّفة أو الريف المتمدين. أما الثالث فهو العفوية التي يكتب بها المؤلف والتي تتجلى في الصراحة الظاهرة والتعبير المباشر عما يدور سواء عن الأسئلة الصامتة التي تشتعل في ذهن بطل الرواية عن الحلال والحرام، والإيمان والإلحاد، والإرادة والاستلاب، واللذة والزهد، أو عن محاولة الإجابات عن كل هذا. والرابع هو ذكر الكاتب أسماء أدباء وصحافيين التقاهم بطل الرواية، وكذلك أسماء صحف وأحزاب ومؤسسات وشركات، من دون أن يمنح أياً منها اسماً مستعاراً.
تبدأ الرواية بعبارة تجعلنا نفهم منذ الوهلة الأولى أننا أمام بطل متمرّد على حاله، إذ تقول: «عشر سنوات لم تكن كافية للعودة من جديد، لو كان في زمان آخر لما تمنى أن يعيش تلك الحياة»، ثم ندخل إلى فضاء نص يحكي تجربة شاب يدعى «يوسف» كان أبوه رجلاً بسيطاً ومتديّناً لقبه الناس بـ «الشيخ» وانسحب اللقب نفسه على ابنه منذ نعومة أظفاره لما أبداه من التزام ديني صارم، لاسيما بعد أن التحق بجماعة دينية، لكنه سرعان ما انجرف مع أصدقاء ظهروا تباعاً في حياته إلى عوالم أخرى جديدة عليه، حيث إدمان المخدرات والخمور، ولوعة الهوى، واللذة ، وأخيراً السؤال عن الوجود ، مع الملحدين واللاأدريين، والبحث عن دور مع المثقفين في مقاهي وسط البلد.
ومع دخوله إلى هذه الدنيا المختلفة على عتبات المراهقة تظهر في حياة «يوسف» شخصيات متتابعة سواء في قريته «جُحر السبع»، أو في مدينة «القاهرة>» مثل «إبراهيم» صبي الورشة الذي يدخّن الحشيش، و»ياسر» الذي «في لحظة تظنه شيخاً جليلاً وفي لحظات يتحوّل إلى راهب في بحر اللذة»، و»أحمد جمال» المولع بالنقاش حول خلق الكون والإنسان. ومع هؤلاء تتوالى الفتيات، الصغيرة التي عرف معها أول طعم للقبلات، وابنة البواب في حيّ الزمالك التي أدركته معها لوعة الغرام، ثم نساء تعرف عليهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي فعرف معهن تجارب جنسية، ثم نساء وفتيات أخريات عرفهن أصحابه وتكفّل هو بسرد تجاربهنّ معهن، أو قصوا هم عليه كل شيء بلا رتوش.
ويظن يوسف أنه تحرر من القيود التي كان يمثلها التدين والتقاليد والتربية الصارمة، لكنه لم يلبث أن يدرك أنه لم ينتقل من الإكراه إلى الحرية الحقيقية، إنما إلى التفلت والضياع أو التمرّد السلبي، وهو ما يبوح به قائلاً: «خرجت من أسوار الجماعة الدينية لأجد نفسي داخل أسوار أسوأ، هل تلك هي الحرية التي بحثت عنها؟ الآن أعيش حياتي كما أحب. كنت أظن أنني عندما أكفر بهم سأصير نفسي، إلا أنني خرجت من دائرة لدائرة، كنت أظن أن رحلة الخروج انتهت بكفري بهم، إلا أنني وجدت نفسي أمرّ برحلة أخرى، تلمؤها عبثية تلك المسرحية التي أحياها».
وكأن الكاتب هنا يريد أن يقول إن التشدّد هو الوجه الآخر للتفلّت، أو أن التديّن الشكلي والمغلوط أو المفروض والقسري ليس سبيلاً للخلاص، وليس طريقاً آمناً لطمأنية النفس، ولا إطاراً متماسكاً للإجابة عن الأسئلة الوجودية والأساسية التي تقابل الفرد وهو ينمو وجدانياً وعقلياً، كما يريد أن يقول أيضاً إن الطفولة يجب أن تعاش كما تطلب، وليس وفق مشيئة آباء وأمهات أو ظروف قاسية تريد أن تخلق من أولادهم الصغار رجالاً قبل الأوان.
وبطل الرواية الذي لم يتوقف في أي لحظة لينعم النظر في حالَيه المتقلَبين المتناقضين، وجد نفسه في النهاية «نصف شيخ ونصف مادّاني، يعرف القليل عن أهل الإيمان، ويعرف الأقل عن أعدائه»، إلى أن سقط بعض أوهامه حين وجد من بين المثقفين والأدباء الذين تطلع إلى أن يكون بالقرب منهم مواظبين على الصلاة ومؤمنين بوجود الله وحريصين على التفرقة التامة بين أفكار المتطرّفين وخطابهم وبين الإسلام. لكن الرواية تنتهي من دون أن تذهب أوجاع بطلها وتناقضاته وحيرته، بل يجد نفسه أمام مصاب جلل حين يعود إلى قريته فيجد أمه تحتضر، لتطوي معها ما تبقّى له في الحياة من عطف وحنان.
وبعبارة الختام نجد أنفسنا أمام نصّ متناثر عفويّ يعاني حمولات ثقيلة للواقع عليه، بل يُستلب حياله، ويدور بالأساس حول تجربة ذاتية أو خبرة شخصية، ليصلح في النهاية أن يكون إجابة عن سؤال يقول: لماذا اختار المؤلف أن يدخل عالم الساردين؟ وما الخطوات التي قطعها إليهم؟ وهي مسألة كانت ظاهرة من عمله الأول الذي إن لم يكن نصاً أدبياً فإنه انتهج الحكي وسيلة للبرهان.
صحيفة الحياة اللندنية