لسياسة خارجية مصرية جديدة.. الفرصة سانحة!
أتت لمصر فرصة لوضع أسس لسياسة خارجية جديدة. هذه الفرصة قد لا تأتى مرة أخرى في وقت قريب أو في ظروف مناسبة. أسمع من يقول إن الفرصة سنحت بالفعل وراحت. أضاعها المصريون. الرد على هذا القول بسيط، وهو أن الفرصة سنحت، ولا تزال سانحة. تأخرنا في الاستفادة منها في مجالات عديدة واستفدنا في حالات قليلة جدا. المؤكد الآن انه إذا قصر المسؤولون هذه المرة في الاستفادة منها، أو تركوها تضيع منهم، فلن يكون حكم التاريخ متسامحا، فعواقب الإهمال أو التأخير ستكون وخيمة عليهم وعلى شعب مصر، وهو الأهم، وعلى الاقليم بأسره.
الفرصة سانحة لبدء الاستعداد المنظم والمنتظم لإرساء أسس وقواعد سياسة خارجية جديدة. الفرصة سانحة لأسباب عديدة، أهمها:
أولا: إن الثورة التي انطلقت يوم 25 كانون الثاني قبل أربعة أعوام لا تزال ناشبة. صحيح أن هذه الثورة تتعرض لجهود شرسة لإجهاضها وتشويه سمعتها، ولكن الصحيح أيضا، هو أنها قاومت هذه الجهود واستمرت جذورها تمتد عمقا في وعي الشعب. يطول الحديث في موضوع الثورة. ولكن في اللحظة الراهنة، يكفي القول ان الانسان المصري تغير، ولن يهدأ له بال حتى يرى التغيير واقعا جديدا في حياة مصر السياسية الاقتصادية والاجتماعية. وما الفشل المتلاحق والتكلفة الباهظة في محاولات العودة بمصر الى الوراء الا بسبب تجاهل مسؤولين ومؤسسات لهذه الحقيقة، وانكارهم لعمق التغيير الذي حدث للانسان المصري.
وجود الثورة في وجدان هذا الإنسان وفي كثير من سلوكياته يدعم أنصار التغيير من الحكام والسياسيين الجدد، ويشجع الابداع في التفكير ووضع التصورات والسيناريوهات ويضاعف القدرة على الفهم الواعي للتحولات الخارجية. لذلك، يحاول خصوم الثورة انكار وجودها أو التقليل من شأنها أو تشويه سمعتها، فذلك يجدد لديهم أمل القضاء المبرم على التغيير والافكار التي تتبناه. هؤلاء الخصوم يسعون للعودة بمصر، سياسات وشعبا، إلى أوضاع ما قبل كانون الثاني 2011، أي إلى أوضاع الاهتراء الصامت والمتدرج وإلى حال السيطرة الكاملة لتحالف قوى القمع وقوى المال الفاسد. يسعون أيضا لكي تستمر الديبلوماسية المصرية في الدوران حول نفسها واجترار أفعالها. تكرر اليوم ما فعلته بالأمس، تتظاهر بالحركة وهي لا تتحرك، وترفض التجديد والابتكار ومعززة بروح بيروقراطية معادية للتقدم والحداثة.
ثانيا: الفرصة سانحة لأن البيئة الاقليمية ازدادت تدهورا. تصور آخر حكام مصر قبل 2011 ان الابتعاد عن الاقليم يحمي سلطتهم المطلقة ومصالحهم الفاسدة ويبعد التدخلات الخبيثة. هؤلاء فاجأتهم مصر بأن قادت الدعوة للتغيير بادئة بإزاحة هؤلاء الحكام وخلخلة النظام الإقليمي من أساسه، واستعادت بثورتها القدرة الفائقة على التأثير في ما حولها والتفاعل بقوة مع التحولات الإقليمية في وقت كانت مصر تخلو من حكومة مستقرة أو نظام قادر.
هذه البيئة الإقليمية المهترئة، بالإضافة إلى الافتقار إلى منظومة سياسة خارجية مصرية قوية ومترابطة، سمحت لقوى التخريب بالنفاذ إلى قلب مصر وضرب أمنها وتبديد قواها. سمحت أيضا بانحسار متسارع لنفوذ القوى التي رشحت نفسها لقيادة الإقليم كافة. النتيجة ساحة اقليمية خاوية ولكن مستعدة للترحيب بنسق فكري جديد تقدمه مصر لمنع تفاقم التدهور الإقليمي. ها هي الفرصة سانحة لتتقدم مصر إلى الاقليم برؤية شاملة لمستقبله ضمن رؤية أوسع لسياستها الخارجية الجديدة.
ثالثا: الفرصة سانحة أيضا لان البيئة الدولية في حال انتقال. بمعنى آخر لا توجد قيود قاسية تتحكم في حركة مصر الدولية، كالأحلاف الثابتة أو ايديولوجيات القوى العظمى. المجال متاح لكي تفكر مصر بحرية وتضع خياراتها بعيدا عن التأثيرات والخيارات الايديولوجية التي كانت تفرضها الحرب الباردة، ومرحلة التبعية المطلقة للسياسة الخارجية الأميركية.
لا أحد ينكر ان الثورة المصرية حررت مصر من قيود خارجية متعددة، خاصة القيود الأميركية. ولا أحد ينكر أيضا انه رغم ظروف مصر الاقتصادية المرهقة ما زالت تستطيع، لو أنها أرادت، ان تخطط بحكمة أكبر وحرية أوسع لوضع أسس سياسة خارجية مختلفة.
رابعا: الفرصة سانحة لان السنوات الأربع الماضية كشفت عن وجود نسبة لا بأس بها من شباب الديبلوماسيين، منفتح على رياح التغيير وقادر على التأثير وواع بمجمل وتفاصيل التطورات الإقليمية والدولية المحيطة بمصر. هذا القطاع من الديبلوماسيين المصريين، وأعرف ان له قرِينًا في أجهزة مصرية أخرى لها علاقة بالسياسة الخارجية، يمكن ان يكون الدعامة الضرورية لتأصيل وتطوير أفكار مبتكرة لسياسة خارجية مصرية تصلح لعصر جديد وشعب متغير وإقليم متحضر.
خامسا: يصعب إنكار أن في مصر الآن وفي العالم العربي عموما، وبين المصريين من الشباب المبعوثين للدراسة أو لعمل في الخارج، عددا غفيرا من الباحثين والاكاديميين الجاهزين فورا للارتقاء بأنفسهم ودراساتهم وحواراتهم وطموحاتهم إلى مستوى عالمي. أعرف عشرات، ان لم يكن مئات، من هؤلاء الشباب معرفة وثيقة. أقرأ ما يكتبون وأسمع ما يفكرون فيه وأناقش معهم في ما يعتقدون، وأظن، بل أنا واثق، انهم جاهزون ليكونوا جزءا أساسيا من قاعدة قوية تحضر لمؤتمر يضع أسس مبادئ سياسة خارجية مصرية جديدة. اعترف، مع هذا، أنني أتألم مثل مئات من أعضاء نخبة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وأنا أرى تدهورا مستمرا في مستوى الحوار حول القضايا الإقليمية الدولية في الفضائيات المصرية وعلى أعمدة الصحف، ولكنه التدهور الذي لا يزال مقصورا على عدد محدود من «هواة» التحليل السياسي أو الظهور على الشاشة.
سادسا: أعرف أن أصدقاء وزملاء يستبعدون إمكان ان يصنع شبابنا وشيوخنا أسس ومبادئ سياسية خارجية جديدة، بينما تتراجع بشدة مكانة مصر في ساحة القيم العالمية خاصة قيم الحريات وحقوق الإنسان. لن نخرج إلى العالم، أو حتى الإقليم، برؤية للسياسة الخارجية المصرية صالحة لعصر جديد تخلو من تأكيد احترام مصر وتبنيها للقيم العالمية. بل واعتقد شخصيا انه ما من رؤية مصرية للسياسة الخارجية ستكون قابلة للتصديق، ما لم ينص في ديباجتها على مضمون «رسالة مصرية»، رسالة تتعهد الديبلوماسية المصرية بنقلها للعالم الخارجي وبثها على أوسع نطاق، ولتكون في يوم من الأيام جوهرة قوتنا الناعمة. أظن انها ستكون واضحة على جدول أعمال هذا المؤتمر «التأسيسي» نية مصر ان تكون لها «رسالة» نابعة من سردية إنسانية وتاريخية فريدة، جذورها في أسس حضارتها القديمة وفروعها في التنوع الثقافي الخلاق الذي تميزت به عقود تاريخها الحديث، وقبل أن تهب عليها عواصف اقتلعت الأشجار ومعها عمائر الحضارة والتقدم.
أقول: نستطيع أن نحقق الظروف والأسباب لاجتماع عقول من أجيال المجتمع المصري وطبقاته وتوجهاته السياسية كافة، لتجتهد فتبدع «عمارة» عصرية جديدة للسياسة الخارجية المصرية. تقوم «العمارة» التي نحلم بها على فكر مستنير ورسالة إنسانية وسياسية تليق بثورة مصر وتاريخها الحديث وهياكل وبنى بشرية وتكنولوجية وفكرية متطورة.
صحيفة الشروق المصرية