الانتقال في مصر: دوران في حلقة مفرغة (ياسر الشيمي)
ياسر الشيمي
من بين المخاطر التي تحدق بمصر اليوم، يصعب على المرء أن يحدد أكثرها خطورة: هل هو تزايد أعمال العنف الخطيرة في الشارع، أو عجز الرئيس مرسي والإخوان المسلمين المستمر في مد يدهم إلى بقية الأطياف السياسية؟ أم هو تمسك المعارضة بأمل أن تحصل أحداث جديدة أو تتدخل أطراف جديدة مثل (مظاهرات حاشدة، أو ضغوط خارجية، أو أحكام قضائية أو تدخل عسكري)، لتمنحها النفوذ والسلطة من دون أن يكون عليها أن تقدم تسويات سياسية واقعية؟ ومما لا شك فيه أن الأمرين مرتبطان بعضهما ببعض، فكلّ من الطريقة المتعجرفة التي تعامل بها الرئيس مرسي مع عملية صياغة الدستور والسلطة القضائية، وكذلك نهج المعارضة الخامل الرافض للسياسة ولشرعية الإخوان المسلمين على حد سواء، أضعفا سلطة ونظرة المواطن لمؤسسات الدولة؛ وهذا بدوره شجع الاضطرابات وأسرع من وتيرة التدهور الاقتصادي.
يمكن لهذه الأمور مجتمعة زيادة إمكانية حدوث انهيار كامل للقانون والنظام. لقد فشلت الفصائل السياسية بشكل متكرر خلال العامين المنصرمين في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن القواعد الأساسية للعبة، مما أنتج عملية انتقالية تهدد باستمرار بانحرافها عن مسارها. حان الوقت للرئيس والمعارضة للتوصل إلى تسوية تسمح بإعادة سلامة الدولة والمحافظة عليها.
يتباين مستوى العنف بين المد والجزر منذ الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، غير أن كل موجة دفعت البلاد أقرب إلى نقطة اللاعودة. يرغب بعض ضباط الشرطة المحاصرين في مقراتهم في خلع بدلاتهم والعودة إلى منازلهم، وهناك حديث عن استياء يختمر بين قوات الأمن المركزي، وفي ظل الفوضى بالشارع تستغل العصابات الإجرامية مع اللصوص الفرصة للسلب والنهب. ثمة صور مروعة جديدة تظهر وحشية الشرطة في التعامل مع المحتجين، حتى وإن لجأوا هم إلى العنف. فيما يصاب كثير من الشباب المصري بخيبة أمل تلو الأخرى من نتائج الانتخابات وبطء وتيرة التغيير، مما يسهل استقطاب بعضهم إلى العنف الفوضوي.
وما يزيد الطين بلة هو تدهور الأوضاع الاقتصادية. فبينما تتراجع احتياطيات العملات الأجنبية، تواجه الحكومة صعوبات أكبر من أي وقت مضى في دعم الجنيه المصري أو الحفاظ على دعم الوقود والغذاء. ولن يتفاجأ المرء لرؤيته قطاعات كبيرة من السكان تنضم إلى أعمال الشغب التي تولدها المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. من شأن الاتجاهات الحالية أن تضع مصر في حلقة مفرغة يغذي فيها ضعف الأداء الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي أحدهما الآخر.
قد يبدو للوهلة الأولى أن السبب المباشر للأزمة محلي بالكامل. إذ بدأت أعمال العنف التي أودت بحياة العشرات في بورسعيد كرد فعل على أحكام الإعدام بحق 22 مشجع كرة القدم؛ 21 متهمون بقتل مشجعي فريق منافس؛ إلا أن هذه الأحداث هي أعراض نزعة أكبر تتمثل في تآكل احترام المؤسسات الحاكمة. في منطقة قناة السويس ودلتا النيل استهدف المتظاهرون المباني الإدارية، التي تعد بمثابة رموز لسلطة ينظر إليها على أنها متخبطة وتعسفية وعاجزة في آن واحد. وبالتالي فإن الانهيار الذي حدث لأجهزة الشرطة إبان الثورة وسهولة اختراق الحدود مع ليبيا والسودان، سجل زيادة ملحوظة في الاتجار بالأسلحة الخفيفة، مما سهل من زيادة العنف في الشارع.
يجري هذا في ظل واقع سياسي أوسع يتمثل في مواجهة محفوفة بالمخاطر بين الرئيس ومؤيديه الإسلاميين من ناحية، الذين يبدو أن الانتخابات تعني لهم كل شيء، والقوى الأخرى المعارضة الذين لا يبدو أن الانتخابات تعني لهم شيئا من جهة أخرى، بين هؤلاء المتربعين على عرش السلطة الذين لا يحترمون خصومهم وأولئك الذين هم في المعارضة والذين ينكرون الشرعية الشعبية للإسلاميين. كانت عملية كتابة الدستور بمثابة عالم مصغر حزين: تعالي الإسلاميين وفرضهم ما كان من المفترض أن يكون تمريرا لوثيقة توافقية، وطيش المعارضة واستغلالها لهذه اللحظة ولأحكام مرتقبة للمحكمة الدستورية لإسقاط الإخوان المسلمين. يحتفل الفريق الأول بمفهومه الضيق لحكم الأغلبية، بينما يتمسك الآخر بمفهوم سياسة الشارع الذي غالبا ما يولد نتائج عكسية.
في ظل غياب رأي مشترك بشأن أسس النظام السياسي المستقبلي، يدفع الإسلاميون برؤيتهم، بينما يحاول خصومهم أن يفسدوا عليهم الأمر. ولدى هذه اللعبة ملامح نبوءة ذاتية التحقق؛ إذ كلما حاولت المعارضة أن تعرقل حكم الرئيس مرسي ودعت للإطاحة به، زاد يقين الإسلاميين بأنها لن تعترف يوما بحقهم في الحكم، وكلما اندفع «الإخوان» أكثر إلى الأمام، زادوا من شكوك المعارضة من مخططاتهم المزعومة باحتكار السلطة. حتى ولو تراجع الطرفان عن حافة الهاوية، يمكن أن يخرج الوضع بسرعة عن السيطرة، وذلك لتضاؤل قدرة الحكومة على السيطرة على الجماهير، وكذا قدرة المعارضة على تمثيلها.
يتطلب عكس هذه الديناميات جهودا على جبهتين. سياسيا، يتمثل الأساس في القبول المتبادل بحقيقتين: أولا أن انتصارات «الإخوان» الانتخابية تضفي الشرعية على حكمهم، ولكن الانتقال التاريخي المعقد الذي يجري في سياق يعج بالمخاطر الأمنية والاقتصادية يتطلب أن تجنح السلطة نحو بناء التوافق العام حول التحولات المصيرية.
ثمة خطوات عدة يمكن اتخاذها في هذا الاتجاه، كوضع حد لدعوات المعارضة الرئيس بالتنحي، واعتراف مرسي بأن الدستور، الذي شابت عمليه تبنيه مقاطعات إجرائية وإقبالا منخفضا للناخبين، يجب أن يعاد النظر فيه لتهدئة مخاوف غير الإسلاميين، ولا سيما المجتمع القبطي. وبالمثل، فإنه يتعين إعادة النظر في عملية تصميم قانون الانتخابات، الذي هو آخر موضوع للخلاف الحاد، وخاصة على حدود الدوائر وتمثيل المرأة، لتعكس اتفاقا أوسع بين الفصائل. وأخيرا، وبعد انعقاد الانتخابات البرلمانية، يجب أن يسعى الطرفان لتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وهي النتيجة التي تخدم كلا من الإخوان المسلمين الذين سيستفيدون من تحول المعارضة إلى شريك مسؤول، والأخيرة لأنها ستكون في موضع أفضل يمكّنها من إعاقة ما تعتبره جهودا رامية إلى إقامة حكم حزب واحد.
قد يكون الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس بمثابة المنتدى للقيام بذلك. ينبغي على الرئاسة أن تبني على وثيقة الأزهر التي وافق فيها جميع الأطراف على نبذ العنف ووعدوا بعقد مناقشات جادة. يحتاج جدول أعمال الحوار إلى إعلان أهداف واضحة تتمثل في إيجاد وسيلة لتعديل الدستور ووضع الإطار القانوني للانتخابات التشريعية، وينبغي توسيع نطاق المشاركة لتشمل ممثلين من الناشطين الشباب والمحتجين. ينبغي أن يلتزم الطرفان بأنه فيما يتعلق باتخاذ القرارات التي تتطلب إجراءات تشريعية، فمشرعوهم المنتخبون في المستقبل سيصوتون بطريقة تتفق والتفاهمات التي تم التوصل إليها في الحوار.
تتعلق المجموعة الثانية من التحديات بالبيئة الأمنية. يجب إصلاح قطاع الأمن على نطاق واسع، بما في ذلك آليات ضمان المساءلة والعدالة لضحايا انتهاكات الشرطة وتدريب قوات الأمن المركزي على السيطرة على الحشود دون اللجوء للعنف المفرط، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير لاستعادة القانون والنظام بحزم.
قد يكون البديل دوامة تأخذ البلاد نحو المزيد من العنف وانعدام الأمن والاضطرابات الاجتماعية والانهيار الاقتصادي. وقد يكون أيضا فشلا في الانتقال الذي خطف إليه الأنظار، والذي سيتردد صدى مصيره في ما وراء مصر.
مجموعة الأزمات الدولية