يوم فقد الخبز الإلكتروني
يوم فقد الخبز الإلكتروني…ست ساعات من فقدان خبز الفيس بوك المدعوم عالمياً كانت كافية بهبوط مليارات الدولارات من قيمته على مؤشر البورصات الدولية، والستة عينها كانت وافية أيضا لتهوي بذواتنا الى تيه من القلق والحيرة والخوف على مؤشر البورصة الإنسانية.
أمراض عصر تعصف بنا البعض يشعر بها و الاخر مصاب ولا يعلم، حدث مر وانتهى بعودة الطعام وتنفسنا للصعداء. هكذا يمكننا وصف الخبر بكل بساطة ،ولكن كسرة خبز كانت هناك عالقة في الحنجرة لم يكن في الإمكان ابتلاعها لفظتها ودفعت معها الكثير من الأسئلة الحائرة في نفسي ونفس الكثيرين، كيف يمكن للأشياء التي ننتجها بأن تسيطر علينا ونعبدها ، كيف يصبح للمصنوع سلطة على الصانع ، الم يحدث هذا سابقا قبل الاف السنين ، وما الفرق ما بين تماثيل الحجارة وهذه الأشياء ، هل استبدلنا اللات والعزى وهبل وزيوس وحورس… بنسخة محدثة من الفيس بوك وتوتير وانستغرام …، أم هي مجرد تمظهرات قد بعثت من جديد .
لا أحد يشك أن تقدم التكنلوجيا الحديثة وتزاوجها مع العلم قدما للبشرية الكثير من الإيجابيات التي لا تعد ولا تحصى وفتحت أبواب العالم على بعضه، وأطل الانسان من خلال نوافذها على الكون الواسع حتى امسك بالنجوم، وككل شيء ينتجه هذا الفرد المبدع له محاسنه ومضاره، ونحن بصدد الوقوف عند منتج مواقع التواصل الاجتماعي المولودة من رحم هذه التكنلوجيا والحاملة لروح هذا العصر وكيف لها أن تحولت الى سلطة غير تقليدية بفعل عوامل كثيرة تتحكم بنا وتسير سلوكنا وترسم الطرق أمامنا.
بداية ظهور الفيس بوك كان بين طلبة في احدى جامعات الولايات المتحدة الامريكية وكانت الغاية منه التسلية والتواصل، ومع مرور الوقت أخذ بالتوسع وانتقلت العدوى كسائر الأفعال الاجتماعية الاخرى الى شتى اصقاع العالم حتى بلغ عدد مستخدميه الى ما يقارب المليارين من أفراد وشركات وحكومات ومنظمات …، وكان الاغراء الأكبر للإنسان الذي اكتسب تسمية جديدة في هذا العالم الافتراضي الواقعي المتشابك (المستخدم) بأنه استطاع النفاذ والدخول من خلال هذه المواقع الى الخطاب العام والخاص بعد ان كانت حكرا ومهيمنا عليها من قبل نخب معينة ، ليعبر عن ذاته وما يجول بذهنه بل وأكثر من ذلك ليظهر بشخصيات عدة قد تتماثل مع الذات الواقعية له أو لا، وينتقل معها من مجرد شاهد ومتفرج على أحداث العالم الى فاعل ومفعول به وليقع في نفسه شعور بتعاطي الحرية في هذا الفضاء الواسع، ولكن هذه الممارسة لن تكن سوى حيز معين محكومة بقوانين داخل هذه السلطة .
وبذلك يكون المستخدم هو العامل الرئيسي واذا اجزي لنا بتسمية تجمع هؤلاء المستخدمين على هذا الفضاء الافتراضي- الواقعي شعب الفيس بوك في بنية هذه النظم الاجتماعية، ليقوم النظام الاقتصادي الرأسمالي بديناميته في الاستثمار السريع بهذا الشعب ليشيء هذا الأخير ويغدو أيضا سعلة كغيره ضمن هذه المنظومة، لتنتج قوة مالية كبيرة لا يستهان بها، ومع تنامي هاتين القوتين الاجتماعية والاقتصادية بدأت معالم السلطوية الناعمة لتلك المواقع الالكترونية تظهر أكثر شيئا فشئيا، فبعد ان كانت مجرد تعليمات معينة كالتي نراها على دليل الاستخدام للمنتجات التي نشتريها، أخذت بالسير في ممارسات اكثر انضباطية وحزم وتحديد ما هو أخلاقي من غيره، وما هو مسموح وغير مسموح بنشره، وتفرض الرقابة والمراقية والعقاب والحرمان من واقع الطوعية الاختيارية التي عقدها المستخدمين مع هذه السلطة ، الى جمع المعلومات والبيانات والتجسس لتأخذ شكل الاستخبارات التقليدية، وتقيم العلاقات السياسية وتمارسها مع القوى السياسية الدولية ، وأن اكثر مثالين على تجليات هذه المواقع كسلطة يمكننا مشاهدتها : الأول في حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وكيف تم إيقاف العديد من حساب المناصرين للقضية الفلسطينية وملاحقة التعليقات المناهضة للاحتلال مشابهة بما يقوم به رجال المباحث في دول العالم بملاحقتهم للكتاب والمفكرين، والثاني الأكثر وضوحا على العلاقة بين سلطات المواقع التواصل الاجتماعي والقوى السياسة الفاعلة على الساحة الدولية والمحلية هو ما حدث يوم اقتحام المناصرين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للكونغرس الأمريكي ، فقد تم إيقاف حساب ترامب على تلك المنصات ، ولنا أن نقف مدهوشين كيف لرئيس دولة بحجم امريكا أن تمارس عليه هذه السلطة.
إن من سلبيات هذا العصر أن الانسان أصيب بداء فقدان الاشباع فأصبح يستهلك أكثر من اللازم في الاكل والشرب والجنس والتقنيات والتكنلوجيا.. حتى غدت تلك الأشياء التي يصنعها تتحكم به وتهيمن عليه والدعوة للخروج من هذا النمط المفرط ليست بالسهلة فالعوامل والمسببات كثيرة في تحديد سلوكنا، والإدراك لإنسانيتنا صعب في ظل هذا الزمن المتسارع والمصبوغ بدمغة الاستهلاك المفرط، وما نفهمه ونتطلع اليه بان الانسان بحاجة كي يتوازن للوقوف على ساقين ليمضي في هذه الحياة، فاذا كانت الساق الأولى هي حتمية الرغبة والغريزة، فالثانية من الواجب ان تكون العقلانية، وما كل ما يتمناه المرء يدركه، وكل ما نخشاه بأننا قد بتنا نمشي على ساق واحدة.