زنوبيا صنعت أسطورتها كملكة شرقية

ما هو دور الأساطير والروايات المتخيلة في كتابة السيرة الذاتية للملوك القدماء الذين لا نملك عنهم إلاّ القليل والنادر من الوثائق التاريخية؟ هذا السؤال يجيب عنه كتاب جديد صدر أخيراً تحت عنوان «زنوبيا، من تدمر إلى روما» عن دار «بيرين» للباحثين والأكاديميين الفرنسيين آني وموريس سارتر المتخصصين المعروفين في تاريخ الشرق القديم، وبالتحديد في تاريخ سورية خلال مرحلة الإمبراطورية الرومانية. يأتي كتابهما هذا بعد سلسلة من الكتب التي أصبحت من المراجع الأساسية بالنسبة لهذه المرحلة، ومنها كتاب «تدمر مدينة القوافل» الصادر عن دار «غاليمار» عام 2008.

يعتبر المؤلّفان أن شهرة زنوبيا كملكة تعود إلى كونها أسطورة أكثر منها حقيقة تاريخية. وفي الواقع فإن المعلومات والوثائق التاريخية حولها قليلة وترجع بغالبيتها إلى ما بعد وفاتها بمرحلة طويلة، وهي التي ساهمت في صناعة أسطورتها كملكة شرقية طموحة ومتمردة على واقعها، وتُعدّ الأشهر بعد كليوبترا، ملكة مصر التي ما زالت إلى اليوم حية في الذاكرة الجماعية تستعيدها الأفلام والمسلسلات العربية والأجنبية.

يعتبر الكاتبان أيضاً أن هناك الكثير من الأخطاء الشائعة بالنسبة لسيرة زنوبيا، من هذه الأخطاء اعتبارها في الذاكرة الجماعية وحتى نهاية القرن التاسع عشر ملكة تدمر التي تمردت على روما وأرادت استقلالها مما أدى إلى نهايتها المأسوية على يد الإمبراطور أورليانوس. وكان الهدف من كتابهما الجديد هو تصحيح هذه الأخطاء معتمدين على الاكتشافات الأثرية التي حصلت في القرن العشرين وإعادة قراءة المراجع التاريخية وفق منهجية علمية. ولقد انكبّ المؤلفان على الكتابات التي وردت على أعمدة الصروح المعمارية في تدمر وعلى النقود التي ترجع إلى مرحلة حكم زنوبيا، وقد عثر عليها في التنقيبات الأثرية، وهي تساعد المؤرخين في إعادة كتابة سيرة الملكة وتصحيح صورتها المتوارثة منذ أجيال.

يؤكد الباحثان أننا لا نعرف بالتحديد تاريخ ولادة زنوبيا وموتها، لكننا بالمقابل نملك الكثير من المعلومات عن القرن الذي عاشت فيه، القرن الثالث الميلادي الذي كان مليئاً بالاضطرابات والقلاقل في سوريا التي كانت ضحية غزوات أجنبية أدت إلى تدمير المدن. أما زنوبيا فقد ورثت الحكم، كما هو معروف، بعد وفاة زوجها أذينة عام 267، وكان اشتهر بالحروب التي خاضها للدفاع عن سوريا ضد ملوك الفرس. كانت زنوبيا تعتبر نفسها ملكة للإمبراطورية الرومانية وليس لمملكة تدمر كما ورد في الأساطير، ولم يكن هدفها على الإطلاق نيلَ الاستقلال عن هذه الإمبراطورية حتى لو أنه لم يتح لها عند توليها العرش الذهاب إلى روما. أما نهايتها المأسوية بعد اقتيادها إلى هناك فترجع إلى الصراعات الحادة للسيطرة على عرش روما، وهي كانت ضحية هذه الصراعات.

من المؤكد، وفق الكتاب، أنّ زنوبيا كانت امرأة متحدرة من أسرة ثرية جداً وذات نفوذ في تدمر التي كانت مدينة في سورية الخاضعة آنذاك للإمبراطورية الرومانية منذ أكثر من قرنين. ظهرت زنوبيا في منتصف القرن الثالث الميلادي ولا نعرف، كما أشرنا، التاريخ الفعلي لولادتها. وهي لم تكن على الإطلاق بدوية ولدت في خيمة في البادية، بل سليلة أسرة من الأعيان ذات ثقافة هيلّينيّة. وكان والدها يحمل اسماً يونانياً ويدعى أنطيوكوس.

الأمر المؤكد أيضاً أنها كانت زوجة أذينة وقد حملت لقب الملكة، لكن ليس ملكة تدمر، لأن تدمر لم تكن يوماً مملكة بل مدينة من مدن الإمبراطورية الرومانية. وقد ورثت زنوبيا لقب الملكة عن زوجها الذي لقّب بملك الملوك بعد انتصاره على الفرس. حكمت زنوبيا مع ابنها الذي كان مراهقاً عند وفاة أذينة وكانت تدمر في عهدهما مدينة ثرية تمر بها القوافل التجارية. ومن المؤكد أن الموقع الجغرافي للمدينة وتواجدها وسط سوريا، بين وادي الفرات والبحر المتوسط، لعب دوراً أساسيا في صعودها وثرائها. وكان أهالي تدمر يؤمّنون للتجّار والقوافل وسائلَ النقل والسفر بسلام وسط البادية.

بالنسبة لتدمر فقد كان لها جيشها الخاص لحماية المدينة في تلك المرحلة. وكان الملك أذينة حقّق انتصارات هامة في دفاعه عن سوريا ضد الفرس. بعد وفاته واصلت زنوبيا سياسته في الدفاع عن سوريا والتمدد في شبه الجزيرة العربية وفي مصر. في عام 270، تولى أورليانوس الحكم في روما وهو الذي اعتبر أن زنوبيا تشكل تهديداً له ومنافساً لأنها اعتبرت نفسها إمبراطورة لروما. ولأنه رفض أن تشاركه السلطة، خاض ثلاث حروب ضدها انتهت بهزيمتها. ومن هذه الهزيمة ولد الكثير من الأساطير عن الملكة الشرقية التي حاربت الرومان واقتيدت أسيرة إلى روما. لكن لا توجد إجابات محددة وحاسمة إلى اليوم عن النهاية الفعلية لزنوبيا بعد هزيمتها. الأكيد أن هذه الهزيمة ساهمت في صناعة أسطورتها في الكتب والأعمال الفنية حيث برزت كمثال للمرأة الشرقية القوية التي دفعت ثمن مواقفها الشجاعة.

تكمن أهمية كتاب «زنوبيا، من تدمر إلى روما» في أنه يشكّل مرجعاً توثيقياً مهماً لملكة ولمرحلة تاريخية، ويعيد النظر في معلومات بدت منذ زمن بعيد حتى الآن وكأنها معطيات ثابتة لا تتزحزح.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى