تهافت التجربة الحزبية في «الشافيات»

بين عودة جلال إلى قريته الصنوبرية، إثر إحراق مركبه في بيروت، وهو حدث غير طبيعي وغير مناسب، في بداية الرواية، واتجاهه لقبول عرض صبحية، شغّيلة المنازل، الزواج منها، وهو أمر طبيعي ومناسب، في نهايتها، تمتد وقائع رواية «الشافيات»، الرواية الرابعة للشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون، بعد «مرايا فرانكنشتاين»، و«ألبوم الخسارة»، و»ساعة التخلّي». فتبدو الرواية كأنها ترصد مرحلة انتقالية بين غير الطبيعي وغير المناسب اللذين أفرزتهما الحرب والطبيعي والمناسب كبداية لمرحلة جديدة.

في الوقائع يعود جلال، بطل الرواية وراويها، إلى القرية، بعد سنين من الإقامة في المدينة، مثقلاً بإحراق المركب الذي وضع يده عليه بعد نزاعه مع الحزب، وبطرد ضمني منه بعد محاكمة صُوَرية، وبانفصال عن زوجته كاميليا التي تركته لآخر، فتبدو القرية الملاذ الذي يعود إليه المرء بعد أن تُوصَد دونه الأبواب. وهناك، يقيم في بيت جدّته لأمه، البيت المهجور الذي أمضى فيه طفولته وصباه، بعد هجرة والديه إلى كولومبيا، وقيام جدّيه بتربيته. وإذ يُفاجأ بتحطيم محتويات البيت، يعزو ذلك لأسباب غيبية، تتعلّق بجدته الحاجة هدية واختلاف الناس فيها بين مؤسطر ومشيطن لها. ولعل تبنّيه هذا التفسير هو محاولة منه لتبرير الفعل والتخفيف عن نفسه.

في القرية، وبحكم الإقامة فيها، ينخرط في شبكة علاقات مختلفة، لم يسعَ إليها هو، الشخصية السلبية التي لا تبادر، وتتصرف في إطار ردّ الفعل على أفعال الآخرين، فيقيم علاقة غرامية مع سلمى، ابنة خاله التي تكبره بتسع سنوات، وتعيش نزاعات زوجية، ومع صبحية، شغالة المنازل، التي فقدت زوجها في السبت الأسود، وتصغره بعشرين عامًا. يجدّد علاقة قديمة مع رفيق الصبا عدنان عليان، نجم الحرب الذي تحوّل إلى عطيلة ومريض. يزور الحاج مهدي، رئيس «جمعية الصراط»، الذي يمثّل السلطة الدينية في القرية. يستقبل المعلم يوسف، معلم الزجاج لإصلاح زجاج المنزل. وهكذا، تتراوح العلاقات التي ينخرط فيها، في القرية، بين علاقات الغرام والعمل والجيرة والصداقة.

من خلال هذه الوقائع، يستعيد الراوي مروحة واسعة من الذكريات، البعيدة والقريبة العهد، وهذه الاستعادة تتم لوجود سبب معيّن لها؛ فرؤيته محتويات المنزل المحطّمة تستدعي ذكريات عن الجدة وكاميليا والمركب والطفولة. وقد تحضر الذكريات بفعل إرادي من دون وجود سبب مباشر، من خلال الوحدات السردية المتعاقبة، التي تتمحور كل منها حول شخصية معيّنة. على أن وظائف الذكريات تتنوّع بين إطباقها على الراوي بقدر من الضيق، وتفريجها عنه حين يهرب من الوقائع إليها. وفي الحالتين تساهم في بناء الحكاية التي يرويها بالتكامل مع الوقائع. وإذا كانت هذه الأخيرة تغلب على سبع وثلاثين وحدة سردية من وحدات الرواية الثلاث والستين، فإن الذكريات تغلب على ستٍّ وعشرين وحدة سردية أي ما ينوف عن ثلث عدد الوحدات. ومع هذا، تغطّي مساحة زمنية أوسع تشمل طفولة الراوي وصباه وشبابه وشطرًا من كهولته… أي أن ثمة علاقة عكسية بين عدد الوحدات السردية والمساحة الزمنية التي تغطّيها.

في الذكريات، نقرأ: سفر والدَي الراوي طفلاً إلى كولومبيا، قيام الجدة بتربيته، صرامتها معه وخوفها عليه من رفاق السوء، دراسته في الإنجيلية، انتسابه إلى حزب الشعب، انضباطه الحزبي وترقّيه ورفضه تقاضي أي أجر، مشاركته في التظاهرات، تخفّيه، زواجه من كاميليا وطلاقه منها، إبعاده عن الحزب ومحاولة توريطه في الفساد، وإحراق مركبه.

ونقرأ: قوة شخصية الجدة واحتكارها الكلمة على من حولها، امتلاك زمام المبادرة، عدم سماحها بالخطأ، اختلاف الناس فيها بين من يؤسطرها ويجعل منها ولية ومن يشيطنها بدافع ذكوري. وهنا، يكسر الكاتب نمطية شخصية الجدة بما هي نبع حنان يغضّ عن تصرفات الأحفاد. ولعل ما يبرّر ذلك في الرواية اضطرار الحاجة هدية إلى ممارسة دور الوالدين اللذين عهدا إليها بتربية حفيدها جلال.

الراوي الشاهد

من خلال الوقائع والذكريات المتمحورة حول الراوي، باعتباره شاهدًا أو عليمًا أو مشاركًا، يفكّك عباس بيضون التجربة الحزبية اللبنانية، بدءًا من آلية الانتساب، مرورًا بالممارسة العملية، وصولاً إلى مآلاتها الأخيرة؛ ويطالعنا، في هذا السياق، سرّيّة الانتساب، اعتماد الأسماء الحركية، الطاعة العمياء، ندرة الاجتماعات في الأطر الوسطى والعليا، عدم الاهتمام بالقراءة، الاستقواء بقوة أجنبية، الحذر من أصحاب الفضول المعرفي، فوقية المسؤولين وازدواجيتهم، التورّط في التهريب وتجارة الممنوعات، تبرير الفساد في الأطر العليا بذريعة تشكيل برجوازية وطنية، وفي الأطر السفلى بحقّ الفقراء في الضحك على المسؤولين، إبعاد المثاليّين بعد محاولة توريطهم في الفساد، إجراء محاكمات صُوَرية، رفض النقد والاعتراض. وكثيرًا ما يتم صياغة هذه الوقائع بلغة ساخرة أو مبطّنة. وهي إن دلّت على شيء إنما تدل على تهافت التجربة الحزبية اللبنانية.

إلى ذلك، تطرح الرواية مسألة الفساد الثقافي والاستثمار في الأدب (عدنان عليّان)، تحكّم الغيبيات بالريف (ولاية الحاجّة هدية)، تسييس الدين (الحاج مهدي)… وهي تفعل ذلك من خلال حكاية الراوي والحكايات الأخرى، القصيرة أو المتوسّطة، التي تحفّ بها وتتواشج معها.

في الشكل، يحضر جلال، الشخصية السلبية، الناشئة بعيدًا من الوالدين في كنف جدّة قوية وجدٍّ تابع لها، المفتقر إلى المبادرة، الممتثل للأعلى والأقوى، المنضبط حزبيًّا، المتساهل في الدفاع عن حقّه، في كل الوحدات السردية، من موقع الشاهد على الأحداث أو المتذكّر لها أو المنخرط فيها. وهو، على سلبيته، شخصية محورية. تحضر الشخصيات الأخرى في النص انطلاقًا من علاقتها به أيًّا تكن تلك العلاقة. يليه في الحضور شخصية الجدة الحاضرة في ذكرياته المستعادة.

في المضمون، ثمّة مفارقة تتعلّق بحضور كلٍّ من المرأة والرجل في النص؛ النساء إيجابيات، قويات، مبادرات، يعرفن ما يردن، ويحقّقن أهدافهن. وهذا أمر مفارق في مجتمع ريفي تحكمه العقلية الذكورية. الجدّة هدية تطلب إلى الجد فارس أن يقوم بطلب يدها، تأمر وتنهى، وتشغل الناس بولايتها أو شيطنتها. سلمى ابنة خال جلال تبادر إلى التحرّش به وإقامة علاقة معه رغم زواجها. صبحية تقوم بالأمر نفسه وتعرض عليه الزواج. كاميليا تتمرّد على السلطة الأبوية والحزبية والزوجية. مريم الفتاة الخيّاطة تتقرّب منه، وتعلن إعجابها به، وتتحرّش به. وروزيت لا تخفي مشاعرها نحوه… بينما يغرق الرجال في سلبياتهم، يتصرّفون من موقع رد الفعل أو التابع أو الفاسد.

هذه الشخصيات، تنتظمها مجموعة من الأسلاك السردية، المختلفة الطول، يُمسك بها عباس بيضون ببراعة، يُدخلها في لعبة الظهور والاختفاء، على مسرح الرواية، بمقادير مدروسة، وهو لا يُفلت أيًّا منها.

وهو إذ يصطنع راويًا واحدًا يُسند إليه عملية الروي بصيغة المتكلّم، يُقيم مسافة متحرّكة تفصله عنه، تطول، أو تقصر إلى حد التماهي بينهما. الراوي يتحرّك بين وظيفتَي القناع والمرآة. ولعلّ تحديد أين تبدأ كلٌّ من الوظيفتين وأين تنتهي يستدعي معرفة دقيقة بسيرة الكاتب، الأمر غير المتوافر في حالتي، إلاّ أن بعض المعرفة يكفي للقول إنهما يتقاطعان مثلاً في بعض الاهتمامات الثقافية، كقراءة رواية «غناء البطريق» لحسن داوود، والتصدير عن خلفية ثقافية، وإن الكاتب يُصادر دور الراوي أحيانًا بإبدائه ملاحظات نقدية ثاقبة تتعلّق بكتابات عدنان عليّان أو منحوتات طالب العكوم، فليس للراوي الذي درس إدارة الأعمال أن يُبدي مثل هذه الملاحظات الموجزة المكثّفة.

يكتب عباس بيضون روايته بلغة سردية مباشرة، تقوم على الجمل القصيرة والمتوسّطة، تقلّ فيها أدوات الربط بين الجمل وتنوجد داخل الجملة الواحدة في شكل أحرف العطف، ما يُكسبها حركة موجيّة ليّنة. يستخدم مفردات محكية، وتراكيب عامية أحيانًا، ولا يسمح للشاعر فيه أن يتدخّل في عمل الروائي إلاّ نادرًا. وهي لغة تلقائية تقترب في بعض مستوياتها من الحكي الشفهي، فيُخطىء الراوي ويتدارك خطأه، كما في قوله: «قال إنه التقى به أمس. ليس أمس بل أوّل من أمس» (261). أمّا لغة الحوار فهي المحكية الجنوبية التي تتناغم مع لغة السرد لتوهما بواقعية الرواية وصدق المروي.

«الشافيات» رواية منحوتة بإزميلٍ محترف، تثبت أن الروائي في عباس بيضون يضارع الشاعر فيه إن لم يبزّه صنعةً واحترافًا، وتعود على القارىء بكثير من المتعة والفائدة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى