السيرة الكلثوميّة من العصمة إلى النكسة
أربعة عقود مضت على رحيل «كوكب الشرق» أم كلثوم (1898 ــ 3 شباط/ فبراير 1975). نالت الذكرى اهتماماً لا بأس به في وسائل الإعلام العربيّة. ونشرت خلال الأيّام الماضية، مقالات وإضاءات تُضاف، كمّاً، إلى آلاف المقالات ومئات الكتب التي تناولت تلك الظاهرة الفنيّة والإنسانيّة التي بدت، فلمعت، وغنّت فخلدت. لكن من يستطيع أن يأتي بجديد ليحقّق من ناحية النوع، لا الكمّ، إضافةً فعليّة تتسم بالموضوعيّة والدقّة؟ هذا هو السؤال الذي يشتغل عليه الفيلم الوثائقي «أم كلثوم» الذي عرضته «الجزيرة الوثائقية» على جزءين مساء الجمعة والسبت الماضيين، احتفاءً بشخصيّة أقلّ ما يقال فيها إنّها نجمة لكلّ العصور.
يراهن الفيلم على تقديم مقاربة جديدة لشخصيّة أم كلثوم، وقد جاء في سردٍ زمني يمرّ على مرحلة بالتفصيل وعلى أخرى بإيجاز. لكن الآراء التي عرضها لكتاب ونقاد وباحثين موسيقيين اتّسمت بالموضوعيّة، فألقت الضوء على عبقرية صوتها وموهبتها اللتين دفعتاها لاختراق المجتمع القاهري المديني، هي الآتية من عمق الريف المصري محمّلة بموهبة فطريّة مذهلة. هنا تكمن إحدى نقاط قوّة الوثائقي الذي ركّز بحسب تعبير معدّ الفيلم الصحافي سيد محمود على أم كلثوم بوصفها «نتاج عصر اعتمد آليّة للفرز، اعتمدت الموهبة وحدها كمعيار، من دون أي شيء آخر». وبالتالي، كانت أم كلثوم «سيدة العصمة» بطلة الجزء الأوّل من الوثائقي، الذي عرض ما مرّ به المجتمع المصري من تغيّرات وتحوّلات ساهمت في التأثير على مسيرة أمّ كلثوم، مع نضج هذه الأخيرة وتحوّلها إلى رمز من رموز الثقافة في القاهرة، ما أدخل معايير صارمة ومتحفظة فنياً حكمت علاقاتها مع الشخصيات التي عملت معها. هذه التركيبة المدهشة، من شعراء كبار وملحنين عباقرة، التفّوا جميعاً حول «المركزية الكلثومية» التي عرفت كيف تدير علاقاتها بإتقان وذكاء، لتصبح، أو لتُدفَع لأن تكون، مركز اهتمام قوى متنافسة سياسياً واجتماعياً يحاول كلّ منها اجتذاب الرأي العام من خلال استغلال (أو استخدام، تلطيفاً) صوت أم كلثوم وهالتها.
عرض الفيلم للشخصيات الرئيسة والمؤثّرة في مسيرة الستّ، وتناول تأثير الوجه الفني على الوجه الشخصي والتعقيد الضمني لعلاقتها مع من حولها، ما جعل من الصعب عليها أن تعيش، مثلاً، حياة زوجيّة طبيعيّة. فكان عليها دائماً أن تتخلّى عن هذا الطموح أو ذاك في سبيل البقاء على عرش الغناء. وحتى مع ما وصفت به من قوّة الشخصية، إلا أنها لم تستطع امتلاك خيارها دائماً، وهو ما يشير إليه معدّ الفيلم سيد محمود قائلاً إنّها «عانت شخصياً صراعاً بين لقب شعبي هو «الستّ»، ولقب رسمي هو «صاحبة العصمة»، وبين اللقبين فقدت حقّها الأنثوي وانعدمت حريّتها الفرديّة وتحوّلت إلى أيقونة».
في الجزء الثاني من الوثائقيّ «سيدة مصر الأولى»، كانت الأولوية لاستعراض الواقع السياسي والاجتماعي لعصر أم كلثوم، وبدت هي في الخلفية، مع عدم قدرتها على اتخاذ موقف محايد، فكان عليها أن تدفع ضريبة ما يُحسب عليها اصطفافاً مع هذا الاتجاه أو ذاك، خصوصاً بعد ثورة حزيران/ يونيو 1952 والتحوّلات الكبرى التي حصلت في بنية المجتمع المصري. وباستعراض نكسة حزيران والخيبة التي سيطرت على جيل مندفع وغاضب، أضحت مثار هجاء حادّ، مع الإشارة ـــ بحسب الفيلم ـــ إلى أنّ الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كتب فيها هجاء قاسياً، كان في واقع الأمر «يموت في الست». وهنا، بدأت تظهر على الساحة الثنائية التنافسية «الكلثوميّة/ الفيروزيّة». فبعد النكسة، مال كثير من المثقفين وأبناء الجيل الجديد لثيمة الحبّ الفيروزية، بكل ما فيها من حيوية واحتفالية ورقّة، ونظروا إلى أم كلثوم، مع إقرارهم بعظمتها، على أنّها تقدم «نموذجاً عُلوياً» للحب، لا يتسم بالحسيّة التي وجدوها في منافستها الوحيدة آنذاك.
يقول معدّ العمل إن الفيلم استغرق عامين، «ما بين تصوير المقابلات واختيار المصادر، بحيث تغطي أكثر من مصدر وفترة تاريخية. وكان المأزق كيف يمكن تجنب المسار السردي والخط التاريخي بحيث لا يتورط المشاهد في توقعات معروفة». وبهذا، اعتمد على أرشيف صحافي ضخم، ومقابلات مع نحو 30 مصدراً للمعلومات، وقرأ ما يقارب 65 كتاباً بالعربيّة، بالإضافة إلى كتب مترجمة عن «كوكب الشرق». ليظهر العمل موفقاً في كثير من نواحيه التوثيقيّة والفنيّة ومعالجته الموضوعيّة التي لم تستسلم، قدر الإمكان، لسحر أم كلثوم.
صحيفة السفير اللبنانية