أوجه التشابُه بين سدَّيْ “أتاتورك” و”النهضة”29
بين سدّ أتاتورك وسدّ النهضة أوجه تشابه، وما بين التجربتَيْن فاصلٌ زمنيٌّ يمتدّ إلى ثلاثين سنة. الأولى قادتها تركيا في ثمانينيّات القرن الماضي مع سورية والعراق المُتشاركتَيْن في مياه نهر الفرات. والثانية ترفع لواءها أثيوبيا منذ عشر سنوات مضت بشأن “سدّ النهضة العظيم” مع كلٍّ من مصر والسودان.
ما يستدعي المُقارَنة، مُقارباتٌ صدرت من أديس أبابا تزعم عدم وجود تجربة يُمكن مُقارنتها بتجربة أثيوبيا بدعوتها لدولتَيْ المصبّ للتفاوض حول سدٍّ لتوليد الطاقة الكهربائيّة من نهرٍ تنبع مياهه من أراضيها.
والحقيقة تكشفها وقائع التاريخ، وما يحصل لدول نهر النيل اليوم، سبق وأن تعرّضت له دول نهر الفرات، فسدّ النهضة يُعيد تجربة سدّ أتاتورك من جديد. هناك إجماعٌ على أنّ نهر النيل بالنسبة إلى مصر هو مسألة حياة أو موت، وبالنسبة إلى أثيوبيا حقٌّ من حقوق “السيادة الوطنيّة”، وما بينهما مساحة شاسعة من الاختلافات.
قد تكون الغلبة في نهاية المطاف “لدول المَنبع” والتي تتحكّم في المياه كيفما تشاء وتشتهي، لكنّ الأنهار العابرة للحدود ثروة مُشترَكة تنظّمها وتَحكمها قوانين دوليّة. من هنا فإنّ الاستئثار بهذه الثروة من جانبَيْ تركيا أو أثيوبيا مُخالِفٌ تماماً لتلك القوانين، ومن شأنه دفْع الدول المُتشارِكة بالمياه إلى الدخول في مُواجهاتٍ غير محمودة العواقب، فالحروب من أجل المياه ليست حلّاً.
مشروع “الغاب” وسدّ أتاتورك
بدأ مشروع سدّ أتاتورك في العام 1983 على نهر الفرات، والذي يبعد عن الحدود التركيّة – السوريّة مسافة 60 كلم. وحجْم بحيرة السدّ يستوعب 48 مليار م3 من المياه.
هذا السدّ العملاق كان واحداً من أصل 21 سدّاً ستُقام في جنوب شرق تركيا، وما يُعرف بمشروع “الغاب”، يغطّي مساحة 73 ألف كلم، تكلفته 18 مليار دولار في حينه، ويُنتِج 27 مليار كيلوواط من الكهرباء بعد بناء 19محطّةَ توليد، وسيعمل على ريّ مليون وسبعمائة ألف هكتارٍ من الأراضي. وفي شهر كانون الثاني/ يناير من العام 1990 تمّ قطع المياه عن كلٍّ من سورية والعراق، ولمدّة شهر كامل، من أجل تحويل المياه إلى بحيرة السدّ، وإبقاء فتحات الأنفاق الثلاثة مغلقة طيلة 30 يوماً. الأتراك في حينه طمأنوا جيرانهم بأنّهم سيبذلون أقصى الجهد في سبيل عدم إلحاق الضرر بهم، وكان تصريح الرئيس تورغوت أوزال مدويّاً؛ وكنتُ شخصيّاً شاهداً على الحدث عندما ذهبتُ مع حوالى سبعين إعلاميّاً لتغطية المناسبة.. قال “لن تكون المياه سبباً للحروب أو الصراع بين تركيا وجيرانها وما يردُّده البعض ليس سوى وهْم يُراوِد عقولاً سقيمة”.
اجتهدَ الأتراكُ بسرْدِ “مَنافِع السدّ”، وبأنّه سيُحقِّق فوائد عدّة منها: منْع حدوث الفيضانات والإسهام في تنظيم مجرى المياه، وتوفير الكميّات التي سيحتاجها الجيران. هذا من الجانب التركي، غير أنّ زيارة واحدة إلى مدينة “جرابلس” على الحدود السوريّة – التركيّة كانت كافية لمُعايَنة حجْم الأضرار التي لحقت بالريّ وكميّة المياه وزيادة الملوحة والنقص في بحيرة سدّ الفرات، ناهيك بالأضرار التي أصابت العراق بشكلٍ أكثر فداحة ومأسويّة.
كان القرار التركي واضحاً من أهداف مشروع السدّ، فهُم كانوا يطمحون إلى تسويق الفائض من إنتاج الكهرباء والمحاصيل الزراعيّة في بلدان الشرق الأوسط وبيعها. أراد الأتراك تثبيت مُعادَلةٍ جديدة، وهي أنّ بلادهم هي صاحبة الحقّ في السيادة على النهرَين (دجلة والفرات) رافضين وصف بغداد ودمشق بأنّهما شريكتان في مياه النهر. وقد أوضح هذا التوجُّهَ الرئيسُ سليمان ديميريل في حينه، مُعلِناً أنّ لبلاده الحقّ في الاستفادة القصوى من مياه أنهارها الوطنيّة حتّى أخر نقطة حدوديّة. واعتبر الأتراك أنّ إنجازَ هذا المشروع العملاق مفخرة لهم، فقد بنوه بمالهم الخاصّ من دون الحاجة لطلب تمويلٍ خارجي. لم تشأ أنقرة الدخول في أيِّ نَوعٍ من المُساوَمة مع جيرانها بشأن “حقوق سيادتها” ووفْق تعريفهم، فإنّ نهر الفرات ليس نهراً دوليّاً، بل هو نهر مياهه “عابرة إلى ما وراء الحدود”؛ وعليه فليس ثمّة اتّفاقيّات دوليّة تلزمهم بتحديد الحصص، ويكفيهم “اتّفاق صداقة وسلام”؛ وبالتالي لا داعي لإبرام اتّفاقيّة بين الدول الثلاث.
اتّسمت تلك السياسة بالتلاعُب بالألفاظ ونزْع صفة “الأنهار الدوليّة” عنها ونعْتها بالأنهار العابرة للحدود! ولجأت إلى المراوغة والتهرُّب من توقيع أيّ اتّفاقٍ مُلزِم لها بتحديد حصص المياه، ووجهة نظرهم تقوم على أنّه لا يوجد مُبرِّر لعقْد اتّفاقيّة، فالعلاقة مع الجيران جيّدة، ونهر الفرات عابر للحدود، ووضعه غير مرتبط بالمُعاهدات التي تكفلها القوانين الدوليّة، فهو مصدر وطني لتركيا، مثله مثل النفط لدى دول الخليج العربي. عملت تركيا على تجاهُل أيّ حقوق للجيران ونسْفها، وأعلنت أنّ مياه نهرَيْ دجلة والفرات لا ينطبق عليها أيّة تشريعات دوليّة، ولا تخضع لتوزيع الحصص، وإنّما للاستخدام الأمثل، ومياه النهرَيْن حقّ طبيعي لها وليسا بنهرَيْن دوليَّين، أيّ أنّهما ينبعان ويتغذّيان من أراضٍ تركيّة ويجريان فوق أراضيها! وبعبارة واضحة تقول إنّ الدول الواقعة أسفل مجرى النهر ليس لها أيّة حقوق.
نهرٌ دوليٌّ أم عابرٌ للحدود
كان الاتّفاقُ المرحليّ والمؤقّت المُبرم عام 1987 بين تركيا وسورية يقضي بتمرير 500 م3 من المياه في الثانية، تأخذ دمشق 42% وتترك الباقي يذهب للعراق، لكنّه تعرّض لانتكاسة، ولم يكُن محلّ التزام، واستُعيض عنه بلجنةٍ ثلاثيّة مُشترَكة (تركيا – سورية – العراق) عقدت 16 اجتماعاً متتالياً وعلى مدى سنوات كان آخر اجتماع لها عام 1992. وهذه اللّجنة حلّت محلّ الاتّفاق المرحلي والمؤقّت، لكنّها أخفقت بالتوصُّل إلى حلٍّ لأنّ الخلاف كان يدور حول نقطتَيْن أساسيّتَيْن، الأولى تعريف نهر الفرات، هل هو نهر دولي أم عابر للحدود؟ والثاني هل مصدر مياهه الوحيد هو تركيا أم إنّ هناك روافد تغذّيه من أراضٍ سوريّة وعراقيّة؟
لم تكترث تركيا للمُطالَبات المتكرّرة من قِبَلِ جيرانها بالالتزام بتحديد الكميّة المُناسبة والمعقولة من المياه لكلّ بلدٍ مُتشاطئ معها. ولم تعترف بقواعد وأُسس القانون الدولي الذي يقرّ بحقّ كلّ دولة مُتشاطِئة على نهرٍ دولي “بحصّة عادلة ومعقولة”؛ ولم تعطِ بالاً لما ينصّ عليه القانون الدولي بأنّه يتوجّب عليها قبل ملء خزّان السدّ على الأنهار المُشترَكة، أن يتمّ عبر اتّفاقٍ مُلزِم. لقد نقضت تركيا تماماً فكرة مبدأ السيادة المُطلقة في المياه الدوليّة.
أثيوبيا تَبني ومصر تُفاوض
الحالة الأثيوبيّة تتماهى مع التجربة التركيّة في العديد من الأوجه، “فسدّ النهضة العظيم” أدارته أديس أبابا منذ لحظة البدء في العام 2011 تحت سقوف حدَّدتها وسارت عليها، تقوم على فلسفة خاصّة بدولة المَنبع، وهي التملُّص من أيّ التزامٍ بتحديد حصص المياه المقرَّرة لمصر والسودان وفق اتّفاقيّات سابقة منها اتّفاقيّة 1902 و1929 و1959، باعتبار أنّ من حقّها استخدام مياه النهر كيفما تشاء لأغراض الزراعة وتوليد الطّاقة.
لجأت أثيوبيا إلى سياسة التسويف والمُماطَلة، فكانت أياديها تبني وفق المخطَّط المرسوم للسدّ، في حين أنّ اليد الأخرى، وهي مصر، كانت مُنهمكة ومشغولة بالتفاوُض؛ وكلّ ذلك بهدف كسب الوقت. تغيّرت أحجام بحيرة السدّ. فبعدما كانت 14 مليار متر مكعّب من المياه أصبحت 74 مليار متر مكعّب.
استغلّت أثيوبيا الظروفَ السياسيّة المتقلّبة التي مرّت بها مصر، بالدرجة الأولى ثورة 25 يناير 2011 وما تبعها من تطوّرات، وإن استمالت السودان في بادئ الأمر إلى صفّها باعتبارها من “المُستفيدين” بحسب التعبير الرائج عند الأثيوبيّين.
ومع التغيير الذي حصل على مستوى القيادات الحاكمة في كلٍّ من مصر وأثيوبيا، تحسّنت لغة الخطاب المُتبادَل، وبات المشروع الأثيوبي مقبولاً من الجانب المصري، ومن محطّة إلى أخرى وصولاً للقمّة ومن بعدها إلى الاتّفاق التاريخي (اتّفاق المبادئ) عام 2015 في الخرطوم بين رؤساء الدول الثلاث والتعهّد بعدم الإضرار بمصالح شعوب دولتَيْ المصبّ.
كانت أثيوبيا، وعلى الدوام، تطوِّق عنق مصر برفضها أيّ اتّفاقٍ تمّ في أثناء الحقبة الاستعماريّة، وهي بذلك تُلغي عمليّاً أيّ التزامٍ بالحصص المقرَّرة “55.5 مليار متر مكعّب لمصر و 18 مليار متر مكعب للسودان”.
لم تخفِ أديس أبابا نواياها، بل جاهرت بها أمام العالَم، فمن يتحدّث عن “حصص ثابتة”، عليه أن ينساها، فأثيوبيا ليست مُلزَمة بها، وعلى مصر التخلّي عن اتّفاقيّة 1959 الموقّعة مع السودان.
بالنسبة إليها “سدّ النهضة العظيم” مشروع وطني قومي يهدف إلى تحقيق نهضة عملاقة، تُعيد لها مكانتها وتجعل منها دولة رائدة على مستوى القارّة الإفريقيّة، وهي اللّغة نفسها التي استخدمتها تركيا في أثناء ملء سدّ أتاتورك. ستمضي أثيوبيا قدماً بملء الخزّان ووفق ما رسمت له، فالتوقُّف عن الملء الثاني سيكلّفها مليار دولار، وهو رقم صعب نتيجة الوضع الاقتصادي المتردّي الذي تعيشه.
سنوات من عمر السدّ ومصر والسودان تفاوضان وأثيوبيا تبني وتستكمل مشروعها، وفي النهاية فرضت نفسها كأمرٍ واقع، إلى أن أوصلت الفرقاء المُتشارِكين معها إلى حائطٍ مسدود، فلا التراجُع بات مُمكناً ولا استمرارها سيعفيها من المُخاطَرة والمسؤوليّة المترتّبة عليها من وراء حجز كميّات المياه المتدفّقة عبر النيل الأزرق لكلٍّ من السودان ومصر.
مُواصفات سدّ النهضة
يقع السدّ في منطقة “بني شنقول” على الحدود السودانيّة، مساحته ستصل عند اكتمال الملء والتخزين إلى 1874 كيلومتراً وأقصى ارتفاعٍ للمياه إلى 640 متراً فوق سطح البحر وإجمالي الكميّات المخزّنة إلى 74 مليار متر مكعّب والسعة التخزينيّة الحيّة 59 مليار متر مكعّب، وسيتمّ تركيب 16 توربيناً، بحيث تنتج 375 ميغاوات من الكهرباء، وبذلك يكون أكبر سدّ مائي في إفريقيا، وهو أكبر مشروع مائي في تاريخ أثيوبيا والثامن على مستوى العالَم، وفي إحصائيّات حديثة أشارت إلى وجود 70 مليون أثيوبي من أجمالي عدد السكّان البالغ 112 مليون لا تصلهم الكهرباء بعد. وبحسبة بسيطة، ولكي يعمل السدّ بكامل طاقته، يجب ملء الخزّانات وهو ما يحرم مصر والسودان من تدفّق 15 مليار متر مكعّب من حصّتهم سنويّاً، ومع كلّ مليار متر مكعّب تخسرها مصر من حصّتها المائيّة، تفقد 200 ألف فدّان. وهذا بخلاف ما سيتعرّض له كلٌّ من سدَّي “رويصص ومروى” في السودان، وكميّة المياه الواردة من الفيضانات المدمّرة، وسنوات الجفاف الممتدّ، والتي ستواجه فيها مصر والسودان ظروفاً بالغة الضيق والصعوبة. فالمسّ بالأمن المائي للشعوب والدول، هو مسّ مباشر بحياة هذه الشعوب والقضاء على حاضرها ومستقبلها في آن معاً.
*كاتب وإعلامي من لبنان مُقيم في الكويت
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)