كتب

«ثومة» باحت بأسرارها في «حانة الستّ»

عبر روايته الجديدة «حانة الستّ» ( دار المثقّف/ القاهرة ــ أقلام عربية)، يحجز الكاتب المصري محمد بركة (1972) مكاناً وسطيّاً بين التاريخ والأدب، إذ يشكّل خطاباً سردياً انهمك في توظيف الواقع ودمجه بالمتخيّل. هي رواية سيريّة لقصةٍ محجوبة عن أكثر السيّدات جدلاً في القرن العشرين، وأكثر أعمدة الفن العربي شهرة واحتلالاً لصفحات المجلّات وخشبات المسارح العربية والعالمية. إنها سيرةٌ لأمّ كلثوم وبلسانها، تفتح أبواب الفضول للتعرّف إلى الفنانة الإنسانة، وتُفصِح عن صوتٍ كان له أن ينقذ عائلتها من ورطة الاستعباد وسط قرية غارقة في البؤس والظلام. «لقد سكنتُ جسد كاتبي…» هكذا يخرج صوتها كما لو أن الكاتب يروي بتفويض خطي لصالح حكاية مغيّبة ومنسيّة.

«كانت أمي الحنان المؤجل، وأبي الحسرة المقيمة»، بهذه العبارة يلخص الكاتب ولادة الطفلة المتنازَع على اسمها. إذ تسجّل الأمّ تمرّدها الأول والأخير، متمسكةً بدعوة ابنتها «ثومة»، فيما يخرج صوت الأب الديكتاتور ابراهيم البلتاجي كمن ينطق بقرارٍ لا رجعة فيه: ستكون أم كلثوم. الاسم الذي التصق بالطفلة وصاغ حياة آسرةً بشكل غير مسبوق، فالحنجرة المعجزة غنّت في الحقول، وتمرّست على التجويد وأداء التواشيح في قريةٍ سماؤها الفقر وعائلةٍ تكمل نصف عشائها نوماً.

تصنع الطفلة مسارها ورؤاها الخاصة في قرية السنبلاوين، تُراكم نقدها بصوتها الداخلي بدءاً من علاقتها المتشنّجة بأخيها الشيخ خالد، الذي تَسبّب بتوقيف مسيرتها الفنيّة مرات عديدة انطلاقاً من مشهد التبجيل الذي يحظى به الذكر. إلا أنها تزجر تعلّقها بمكانٍ غارق في الظلم والكآبة، وترفض بخطابٍ تهكّمي وهزليّ محيطها حين تسترجع نسوةَ قريتها المستعبدات، وذاتها الأنثوية التي أطّرتها الأعراف بالشرف، لتكبرَ على فكرة الأنوثة وارتباطها بالعار، انتهاء بأمٍّ تزيد ساعات عملها في الحقول المروية بعرق الفلاحين كي تساعد ابنتها على فكّ الحرف.

يبلغ السّخط منتهاه حين يُسيطر الأب كما الفقر على مستقبل الطفلة المراهقة، فالحاجةُ تدفعهُ للاستعانة بصوتها في الموالد والأفراح، لتجبَر على ارتداء العقال البدوي والملابس الذكورية وتطوف حول القرى والبلدات تجنّباً للفضيحة وستراً لما أسماه رجالها عاراً كبيراً.

يبني الكاتب في نصّه خطّاً تاريخياً موازياً لفضائه الروائي، ويُفصح عن حقبة هامة من تاريخ مصر والعرب، من ثورة عرابي إلى الملكيّة حتى ثورة تموز ووفاة «كوكب الشرق»، بعد أن يكون قد كشف المستور، وأوضح الالتباسات، وقشع الظلال الباهتة عن الجدل المثار حول حياتها الخاصة بأدواتٍ مزجت الواقعي بالتخيلي، كما لو أنه أراد أن يثبت مقولة الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو: أجل.. بإمكان الخيال أن يخلق الواقع! ذلك الخيال الذي يُثير، ويحرّك الراكد، وينتج المعاني، ويعكس في القارئ انفعالاتٍ شتى.

«لقد رموا بي إلى الذئاب، فعدتُ قائدة القطيع» هكذا تفضّل الطفلة المعجزة أن تلخّص سيرة حياتها، فالهاربة من قرية منسية إلى نعيم المحروسة، تكتسب شخصية جديدة نمت بين القصور وعلى موائد الباشاوات. هنا يتجاذب الروايةَ هاجسان: الأمانة التي تسير وفقاً لسيرة حقيقية، وكون سردي موازٍ يحافظ على جمالية النص، ويحطم تلك الصورة المثالية والمقدسة أو كما يُضمِرُ النصّ؛ الجاحدة لهشاشة الإنسان القابع داخل الفنانة، وضعفها البشري وإنسانيةِ من لم تلبس الملابس الزاهية يوماً، ولم تفرح كما فرحت بقية البنات.

يستمر الكاتب في السير زمنياً، يكشفُ عتمة الصعود وخلبية السطوع الذي رافق النجمة. يفتح ملف علاقاتها السياسية، واستثمارها بدافع الانتهازية والسقوط في شرك الحسد (كاعترافها بالغيرة من أسمهان) إلى استعمال ما أسماهُ كيدَ النساء كما في علاقاتها مع أحمد رامي والقصبجي وغيرهما من ملحنينَ وكتّاب وصحافيين.

هو بحث واستكشاف يخرج عن التأريخ بهدف منح الحيوية الحكائية لصوت أحيا الملايين، لكنه طالما أخفى تحت واجهته الاستبدادية هشاشةَ ذاتٍ محاربة، متمردة، وغير راضية. تخرج أم كلثوم بأسلحتها إلى الحاضر، تلك القروية التي وقعت في شرك الإتيكيت، وكتبت الصحافة عن فظاظة سلوكها الريفيّ، تصل إلى مقام الرئاسة الأعلى، ويخطب ودّها السفراء والوزراء. إنها النرجسية الصرفة، والديكتاتورية الحاضرة بكامل عدتها، لم تقبل بمنافس آخر ولو كان نجماً هارباً من أعلى سماء.

في «حانة الستّ»، يكتب الروائي وفق منهجه الجماليّ، ويصنع مساره الخاص وينحاز ليرينا العالمَ بعينهِ. يؤكد في نهاية روايته أنّ الوقائع التي تم رصدها عبر وثائقَ ودراساتٍ تناولت سيرة الفنانة، كانت شبه قاصرة حين تعاملت مع الأسطورة بوصف حالها أمام العدسات. إذ تجاهلت كل المعارك والمهانات التي ينزفها الفنان في سبيل سطوعه، وتعامت عن قدرته الفذة على استشراف مستقبل الفن حين يرصد الأحوال بعين الخبير: «سيكون صراعَ وحوش القبح، مع لبؤات التنهدات» هكذا تصف أم كلثوم قبيل وفاتها حال الفن القادمة، وما سيطرأ عليه من إسفاف وتهتك، ليُنهي الكاتب سيرتها من دون أن يسيء لها. لقد أراد له أن يرتق الفجوة في شخصية الإنسان النجم، ولربما أراد أن يقول: نعم إنه نجم.. لكنه أيضاً من لحمٍ ودم.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى