مناورات البحر الأحمر بعد “ذي الفقار”.. التوقيت والأهداف
هي المرة الأولى من نوعها، منذ توقيع اتفاقيات التطبيع، التي تُجري دولٌ خليجية مناورات عسكرية جوية مع “إسرائيل” بقيادة أميركية في البحر الأحمر، تستمرّ خمسة أيام متتالية، انطلاقاً من الأسطول الأميركي الخامس، وُصفت بالمناورة الهجومية.
وتأتي هذه المناورة، التي تشارك فيها كل من الإمارات والبحرين و”إسرائيل” وأميركا، بعد أيام قليلة من إجراء مناورة كبيرة للجيش الإيراني، أُطلِق عليها مناورة “ذي الفقار”، وتخلَّلتها تدريبات عسكرية عالية، وإطلاق صاروخ جديد من طراز “قادر”، موجَّه عن بعد، وفي مقدوره إصابة هدف على بعد 300 كيلومتر.
والأمر لم يتوقّف هنا، فالاستعدادات لإجراء مناورة جديدة مشتركة برية وبحرية، بين كل من أميركا والكويت والسعودية، تجري على قدم وساق خلال هذه الأيام، وستكون في بحر العرب، وتستمر حتى الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، في وقت تشهد المنطقة توترات إقليمية غير معتادة.
صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية كشفت أن هذه المناورات تأتي على خلفية مناورة أُخرى قام بها الجيش الإيراني في الخليج وبحر عُمان، وحملت اسم “ذي الفقار”، بينما قال ضابط رفيع المستوى في سلاح البحرية التابع للاحتلال الإسرائيلي “إنّ هدف المناورة العسكرية المشتركة بين إسرائيل والإمارات والبحرين والولايات المتحدة، هو منع التموضع الإيراني في البحر، والتصدّي للمسيّرات”. وشدّد على أن هذه المناورة تأتي ضمن خطّة أوسع مع الأميركيين لمجابهة التموضع الإيراني.
كيف يمكن قراءة مسرح المناورات في المنطقة؟ وما هدف كل منها في هذا التوقيت؟ وهل يمكن القول إنها بالفعل رسائل متبادلة بلغة النار ستخدم أهدافاً سياسية فيما بعدُ؟ أم أنها مقدمة لمواجهة بحرية ميدانية حقيقة؟ أم أن سياقها يقف عند تثبيت قواعد جديدة في البحر أمام حالة القلق الكبيرة التي بدأت تعيشها أميركا و”إسرائيل” ودولٌ خليجية بعينها جرّاء تصاعد قوة إيران ونفوذها في المنطقة، ومشروعها النووي؟
تنطلق المناورات إيذاناً مع قرب انطلاق محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي الإيراني، والهدف الأساس من وراء مشاركة “إسرائيل” في المناورة الرباعية التي ضمّت دولاً خليجية، يأتي انطلاقاً من تشكّل حلف خليجي إسرائيلي، مدعوم أميركياً، يعمل بصورة متناغمة ضد إيران، ويبعث برسائل تعتبرها “إسرائيل” مقصودة في هذا التوقيت، ومفادها أن الوضع القائم يستوجب تهديداً علنياً ورفع حدة التهديد تجاه إيران. وهذا ما ذهب إليه يوآف ليمور، المحلل العسكري الإسرائيلي في صحيفة “إسرائيل هيوم”، والذي قال بصورة واضحة إن “مشاركة إسرائيل تأتي على الأقل في سياق إعداد خطة مشتركة أميركية إسرائيلية أوروبية بشأن كيفية التصرف في حال فشل المحادثات”. وهذا يعني أن “إسرائيل” مستمرة في التحريض ضد إيران في كل الطرائق والوسائل، عبر الدفع تجاه ضمان وجود خطط هجومية جاهزة لمهاجمة إيران وقتما تتهيّأ الظروف وتسنح الفرصة المؤاتية. وثبت هذا عبر تصريحات صدرت مؤخراً على لسان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت، خلال المناورة الأخيرة التي أجراها الاحتلال قبل أكثر من أسبوعين، والتي تحاكي حرباً في عدة جبهات، وأعلن فيها، بصورة واضحة، أن “إسرائيل” لن تدَّخر جهداً من أجل إبطاء التقدم النووي الإيراني، وأنها تعيش حالة حرب باردة مع إيران.
القضية، التي يجب تأكيدها أمام مسرح المناورات العسكرية المتواصلة في عدة جبهات، أن إيران تنطلق إلى مفاوضات فيينا النووية وهي في موقع قوة، لا في موقف ضعف. وعبّرت مؤخراً عن بهجتها وانتصارها الكبيرين، من خلال السيطرة على القرصنة الأميركية في عرض البحر، ثم أعلنت رفع نسبة تخصيب اليورانيوم، ثم أجرت مناورة عسكرية كبيرة شكّلت فيها صورة إيران القوية عسكرياً، وبعثت فيها برسائل بلغة من نار، موجَّهة إلى كل الأطراف، أمام التهديدات المستمرة لها من جانب “إسرائيل” وأميركا ودول خليجية مطبِّعة أخرى. فإيران أصبحت دولة قوية، ودخلت النادي النووي، قولاً وفعلاً. وهذا ما أثبتته الأحداث والإحداثيات والمواقف المتتابعة، والتي تصدر عن طهران في كل مرة.
المناورة، من حيث التوقيت، جاءت بقرار أميركي، ومشاركة إسرائيلية خليجية، تزامناً مع قرب استئناف المحادثات في فيينا. ومن حيث الهدف، اجتمعت الأطراف الأربعة على قاعدة توجيه رسائل من أميركا أولاً، ثم من “إسرائيل” والدول المشاركة ثانياً، بهدف الاستعراض بقوة العضلات، وفرض مظاهر التلويح بالقوة العسكرية تجاه إيران المتمسكة بشروطها وسقفها العالي بشأن الاتفاق النووي الإيراني. وفي القراءتين الأمنية والعسكرية، معروف أن المناورات تجري، في العادة، إمّا من أجل توجيه رسائل سياسية، وليس بالضرورة أن تكون مقدمة لحرب، وإمّا من أجل التدريب العسكري المعتاد، وإمّا يكون هدفها إرسال رسائل عسكرية استعداداً لحرب أو سيناريوهات محتملة.
“إسرائيل” ما زالت تتغلغل في كل الجبهات، بمساعدة دول عربية مطبِّعة، وأخرى في الطريق، وتعمل من أجل تحقيق أهدافها وأطماعها. وما زال القرن الأفريقي ومحيطه هدفَها، ومشاركتها في مناورات عسكرية في البحر الأحمر، للمرة الثانية، ليست عبثيةً بالمطلق، وهي في الحقيقة أمر لافت، إذ تسجّل، يوماً بعد الآخر، أهدافاً عسكرية واستخبارية، انطلاقاً من إثيوبيا التي تطل على البحر الأحمر، باعتباره الممر المائي الأهم في المنطقة، والذي يفصل بين بحر العرب عند باب المندب ويتصل بقناة السويس. لذلك، تعتبر “إسرائيل” البحر الأحمر منطقة مهمة للغاية، جغرافياً واستراتيجياً وعسكرياً، من أجل تحقيق غاياتها ومخططاتها.
مسرح المناورات العسكرية بين إيران والولايات المتحدة باتت أهدافه ورسائله واضحة، وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً عن مدى احتمال نشوب مواجهة ميدانية بحرية أو عسكرية بين الطرفين. فالوقائع على الأرض تشير إلى تزايد حدة التحدي بين الطرفين، وهو ما بدا واضحاً عبر اعتراض الدفاعات الجوية الإيرانية، قبل أيام، طائرات مسيّرة تابعة للقوات الجوية الأميركية من طراز MQ-9 المعروفة باسم ريبر، وRQ 4 المعروفة باسم غلوبال هوك، فوق بحر العرب، بعد أن اقتربت من منطقة المناورات العسكرية التي أجراها الجيش الإيراني قرب مضيق هرمز الاستراتيجي.
كل ما يجري على الأرض ليس عبثاً، وله أهمية ورمزية كبيرتان تسبقان بدء جولة محادثات فيينا بشأن الاتفاق على برنامج إيران النووي، ويعكس جدياً استعداد إيران عسكرياً وسياسياً. فإيران تريد أن تبعث برسالة إلى كل الأطراف التي ستجتمع في فيينا، مفادها أنها دولة قوية، جاءت وهي تمتلك القوة العسكرية للدفاع عن نفسها في حال فشلت أو أُفشلت المحادثات. وتبعت برسائل سياسية أخرى، مفادها أن المَخرج للعودة إلى الاتفاق النووي الايراني هو المعايير التي أعلنها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والمتمثّلة بإلغاء الحظر عن ايران، على نحو فعّال وقابل للتثبّت، في مقابل عودة كل الأطراف الى الالتزامات الكاملة تجاه إيران.
أمام القراءة العميقة لمسرح تبادل الرسائل العسكرية بين إيران والأطراف الأخرى، يبقى الخيار العسكري، والذي يلوَّح به في هذه المرحلة، غير ممكن في ضوء جهود دبلوماسية موازية إيرانية صينية روسية مستمرة، وحركة لا تهدأ في أروقة الدبلوماسية الأميركية، التي باتت مقتنعة بأنها مارست أقصى أشكال العقوبات ضد إيران، وأن العودة إلى الاتفاق النووي فيه مصلحة لكل الأطراف، ناهيك برفض إدارة بايدن ودول أوروبية مشارِكة في محادثات فيينا الاستجابةَ للتوجه والتحريض الإسرائيليَّين على استخدام الخيار العسكري ضد إيران حالياً. وبالتالي، لن يتبقّى أمام الأطراف المجتمعة في فيينا سوى قبول شروط إيران والعودة إلى الاتفاق الذي تنصَّلت منه الإدارة الأميركية السابقة في عهد الرئيس دونالد ترامب. ويبقى خيار المواجهة العسكرية مستبعَداً مرحلياً لأنه لن يصبّ في مصلحة أيّ من الأطراف.
الميادين نت