فيروز في عيدها السادس والثمانين
عيد ميلاد فيروز (21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935) مناسبة للتذكير بأنّ أرشيفها الضخم لا يزال ينتظر مؤسسة تجمعه وتحفظه وتتيحه للمهتمين. مثال عن هذا الأرشيف الضائع: ألبوم التسجيل الحيّ الأوّل لفيروز، الذي كان متوافراً في القرن الماضي (على أسطوانات وأشرطة) ولم يصدر يوماً على أقراص مدمجة. اليوم، لا يمكن سماعه إلا عبر يوتيوب، بنوعية صوت رديئة، وبدون أي نصّ يشرح ظروف التسجيل أو يشير إلى علاماته الفارقة.
في عام 1959، عاد «مهرجان بعلبك» بعد انقطاع بسبب أحداث 1958 الدامية، وعاد الفن الشعبي اللبناني بمشاركة أساسية للأخوين رحباني وفيروز الذين أتبعوا حفلات بعلبك الخمس بحفلتين، كانتا الأُوليين لهم، في «معرض دمشق الدولي» في أيلول (سبتمبر). في «مهرجان بعلبك 1959»، ولدت «الفرقة الشعبية اللبنانية» وسُجِّلت في السجل التجاري في أوائل عام 1960. أسّس الأخوان رحباني هذه الفرقة مع المخرج والمنتج ورفيق دربهما صبري الشريف، وكان هدفها إحياء التراث الشعبي اللبناني والعربي. بالفعل، كانت حفلات بعلبك عام 1959 عِبارة عن مشاهد يطغى عليها الطابع التراثي، مجموعةً في فصلين: الأوّل من تأليف وتلحين زكي ناصيف وقائد الأوركسترا توفيق الباشا، مع مشاركة محدودة لفيروز والأخوين رحباني. أما الفصل الثاني، فتولّاه الأخوان بشكل شبه كامل: تدور قصة هذا الفصل حول «هيفا» (فيروز)، فتاة قرويّة بسيطة تسرق قلوب الشبّان، فيسرقون عنزتها. تمضي في البحث عنها، وحين ينكشف أمر السارقين، يحكم المختار (وديع الصافي) على الشبان بالرقص وعلى هيفا بالغناء. يتضمن الفصل محاورات غنائية ومشاهد مرحة مع فيلمون وهبي ورقصات إيحائية ودبكات (تصميم مروان ووديعة جرّار) وأغنيات لفيروز («يا قمر أنا وياك»، «ما في حدا»، «يا تلال صنوبر»، بعضها بنسخ آلاتيَّة: «حبيتك والشوق انقال»، «غمارنا عكتافنا تزيد»، «يا مايلة عالغصون»، «هيك مشق الزعرورة»). كما يشارك في الغناء كل من وديع الصافي (البير…)، والمغنية الذائعة الصيت وقتها رنده ونصري شمس الدين.
في عام 1959، عاد «مهرجان بعلبك» بعد انقطاع بسبب أحداث 1958 الدامية، وعاد الفن الشعبي اللبناني بمشاركة أساسية للأخوين رحباني وفيروز
أول تسجيل حيّ
أثناء المهرجان، تداولت الصحف أنه بناءً على طلب القائمين على حفلات الفنّ الشعبي، قام رجال الدرك بمصادرة آلات تسجيل صغيرة كان قد حملها كثيرون إلى القلعة لتسجيل أغنيات فيروز خلال هذه الحفلات. في آذار (مارس) 1960، صدر التسجيل الحيّ الرسمي لمهرجان 1959 (الفصل الثاني فقط وليس كاملاً) على أسطوانة من التسجيل الطويل (33 دورة، و12 إنشاً)، ولمّح الناقد وصديق الأخوين نجاة قصاب حسن (1920ـ 1997) إلى مسألة مسجِّلات الهُواة، في نص رافق الأسطوانة، غير المألوفة آنذاك لا شكلاً ولا مضموناً، إذ إن بداية الستينيات كانت فترة انتقالية بين عهدَي أسطوانات الشيلاك (78 دورة) والفينيل (45 و33 دورة). وهذه الأخيرة هي التي سمحت للأخوين رحباني بتسويق أعمال طويلة، من اسكتشات غنائية ومسرحيات وحفلات حية. أسطوانة مهرجان 1959 هي أول إصدار لتسجيل حيّ لفيروز، لكن اسمها لم يُذكر على غلاف الأسطوانة التي حملت عنوان «مهرجانات بعلبك الدولية – الفرقة الشعبية اللبنانية» (1)، ولم تزيّنها أي صورة لفيروز، بل صورة لمعبد باخوس وأخرى للمسرح والمجموعة.
الأسطوانة بطبعاتها المختلفة
في عام 1960، طُبعت الأسطوانة في إنكلترا تحت علامة «بارلوفون» في معامل «إي. أم. آي» لحساب شركة «صوت الشرق» (لم يكن في لبنان مصانع لطبع الأسطوانات قبل عام 1964). وطُبعت منها مقتطفات على أسطوانات 45 دورة في إنكلترا وفرنسا. نالت الأسطوانة شهرةً واسعة، حتى وصلت إلى أميركا الجنوبية حيث طُبعت نسخ منها في تشيلي والبرازيل والأرجنتين (بعد رحلة فيروز إلى أميركا الجنوبية عام 1961) وكُتب أنّها «وثيقة ثمينة لكل مهتمّ بالموسيقى الفولكلورية» (جريدة «دجياريو دا نويتشيه»، ريو دي جانيرو، شباط/ فبراير 1962). في عام 1974، أعادت شركة «إي.أم.آي» طبع الأسطوانة في اليونان، بعدما حوّلت التسجيل إلكترونياً من «مونو» إلى «ستيريو». إلى جانب هذا التغيير التقني وتعديل غلاف الأسطوانة الذي أضيفت إليه ثلاث صور لفيروز، هناك اختلافات في المضمون بين طبعتَي 1960 و 1974. معظم الفروقات بين النسختين يتعلق بالمونتاج وبالتصفيق الذي تمّت زيادته في النسخة الأولى والذي يتضح أنّه لم يكن دائماً حماسياً (وهذا أمر تكلم عنه عاصي الرحباني بمرارة في إحدى مقابلاته في الستينيات).
لكنّ الفرق الأهم هو في أغنية «ما في حدا»: لقد تم استبدال النسخة الأولى منها بنسخة أخرى مختلفة بنواحٍ عدة، أهمها طريقة غناء فيروز الانسيابية. إضافة إلى أنه في نسخة 1960، كان بين «ما في حدا» والمقطوعة الموسيقية التي تسبقها، تصفيق حادّ طمس البداية الموسيقية للأغنية، بينما في النسخة الثانية، الأغنية متصلة بما يسبقها بدون أي مونتاج ولا تصفيق: بعد نقرات عازف البيانو بوغوص جلاليان المهيبة، ينساب صوت فيروز الذي «شفّ […] حتى ترى من خلاله أعماق النفس الإنسانية الحلوة الغنية المهذّبة» (2).
(1) العنوان بالإنكليزية: Folk songs from Ba’albak
(2) من نص نجاة قصاب حسن الذي طُبع على الغلاف الخلفي للأسطوانة.