الوحدة، والنسيان

يتمادى التاريخ في السخرية من كل شيء
________________________

في كتابه ” الضحك والنسيان” يقول ميلان كونديرا ـ الكاتب التشيكي:

” لئن كان فرانز كافكا نبياً لعالم خالٍ من الذاكرة…فإن “غوستاف هوساك” هو مؤسسه بلا منازع . إنه الرئيس السابع لبلادي . ولاّه الروس السلطة العام 1969 .

أول شيء قام به مباشرة، بعد تعيينه رئيساً، طرد 145 مؤرخاً تشيكياً من الجامعات والمؤسسات العلمية. أحد الأساتذة من هؤلاء المطرودين قال: لتصفية الشعوب يُبدأ بانتزاع ذاكرتها وإتلاف كتبها. ويكتب لها كتب أخرى، وتعطى ثقافة أخرى، ثم يبتكر لها تاريخ مغاير. تُنسى، بعدئذٍ، هذه الشعوب شيئاً فشيئاً ما كانته، وما هي عليه. ولذلك فإن “غوستاف هوساك” هو، بجدارة ساخرة، ” رئيس النسيان…”

للوطن العربي ثأر مع تاريخه، فهو يمزق صفحات منه، في كل مرحلة سياسية، ويكتب، مضيفاً صفحات، ويغش في الوقائع، ويدير عين القارىء إلى الثانوي، بدل الرئيسي، ونصبح جيلاً بعد جيل، شهوداً، بلا فاعلية، على تلف الحقيقة، ويصيبنا السأم من البحث عنها.

بعد أربعين سنة على قيام وحدة مصر وسوريا 1958 نجد في الإعلام العربي خطاباً ظاهره الرغبات الوحدوية، وباطنه التفكيك والتجزئة، وثمة نوع من التذكر النمطي لتلك الوحده في 22 شباط/ فبراير من كل عام يقال فيه الكلام نفسه، في حين يذهب قائلو الكلام إلى عشيرة وقبيلة وعائلة، ويستقرالوطن العربي ، من المحيط إلى الخليج، على العجز الذي أدى إلى اختلاط العدو بالصديق.

وبعد أربعين سنة، نتذكر تلك الجمهورية العربية المتحدة لنشتمها أيضاً، لنقول، كما قال بن غوريون غداة قيامها ضارباً قبضته على طاولة مجلس الوزراء:

“هذه ليست جمهورية ولا عربية ولا متحدة “.

بعد أربعين كارثة اعقبت زوال تلك الوحدة، ثم تالياً زوال تدريجي لفكرتها… كان من المفترض أن نسأل أنفسنا ببساطة ومسؤولية: “هل انتحرت الوحدة أو قتلت من خارجها؟ ” وهو سؤال يتعلق بما رأيناه أثناءها من الأحلاف وما بعدها من التشفيات.

برقية خالد بكداش، أمين عام الحزب الشيوعي السوري، تقول لمأمون الكزبري، أحد أركان الانقصال: “نهنئكم على الانتصار الكبير على الاستعمار المصري”.

واليوم يتضح، أكثر من أي تاريخ آخر، أثر التمزق والتفكك ليس بمفهوم الوحدات الكبرى، بل بمفهوم الدولة الوطنية القطرية، التي لم تستطع إنجاز أي مهمة من مهمات التنمية (زوال الفقر) والتحرير(زوال الاحتلالات) والتقدم (استخدام معطيات العصر ولغته). بل إنها لم تستطع (وهذا أخطر ما حدث لها) أن تحافظ على التماسك الاجتماعي، وصيانة الهوية الجامعة… هوية المواطنة، بل انحدرت صيغة الانتماء إلى الهويات الصغرى: الطوائف، واشتقاقات الأديان والأصول.

من هنا يأتي المشروع الإسلامي…ليدخل إلى النسيج الاجتماعي، ويتقدم في أرض ممهدة وقد حرثها الفقه والفتوى والنص المقدس. ليزرعها عدد من متعهدي إقامة أي نوع من الدولة الإسلامية: النوع التركي أو الأفغاني، أو الإيراني أو التونسي. لكن مقتل هذا المشروع هو عدم صلاحيته لعصر المدنيات الكبرى. لعصر الترابط في صراع المصالح الكبرى. والمقتل الأكبر هو ” العنف”.

في الذاكرة الجمعية للمسلم العادي “غزوة بدر” ولكن ليس في ذاكرته مئات آلاف القتلى، ليس لنشر الإسلام وإقامة دولته الكبرى، بل على مذبح الصراعات بين العقائد والأفكار ووجهات النظر.

في الذاكرة الجمعية للمسلم العادي…”ما عرف العالم فاتحاً أرحم من العرب” وليس في ثقافته أي اعتراض قائم على تمحيص الحقائق التي من بينها : ” ليس هناك فاتح رحيم”.

ما أرادته السياسة هو ما قام الدين بتصنيع فتوى ملائمة له. وما أراده الدين غير ما نفذته السياسة… ولذلك ثمة طرق عديدة لتصنيع النسيان، وثمة طرق أكثر لتدمير الذاكرة.

واليوم تتم العملية بتكديس الكوارث بحيث تأتي الكارثة الجديدة لتمحو آثار الكارثة القديمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى