موزع الحياة
موزع الحياة
قال العسكري، ونحن على أبواب دمشق: الطريق إلى المدينة مغلق. فسلكنا طريقاً يؤدي إلى بلدة صغيرة مليئة بالكنائس اسمها صيدنايا. على أمل الدخول، من هناك، إلى دمشق. فقيل لنا: الطريق “مقنوص” أي يسيطر عليه القناصون.
ذهبت إلى الدير المعروف في البلدة لأنام، تلك الليلة، فقالوا: نحن نستقبل عائلات فقط، ذهبت إلى دير آخر، فكان يستقبل ، وكان مقفراً إلا من رائحة القداسة. وهادئاً إلا من أصوات المدافع والرشاشات، من بعيد. ومكاناً للتوجس لا للطمأنينة. كان الدير أحد الكنائس اليونانية، وفيه طابق فندقي للسياحة الدينية.
من الشرفة يمكن رؤية المنطقة المقفرة المحيطة بالدير، ومن بعيد تبدو بلدة صيدنايا مغلفة بالعتم وبالصمت، ووحيدة في حضن جبل ضخم كأنها مدينة في حالة لجوء جماعي إلى الطبيعة.
لحسن الحظ كان الانترنت شغالا. ولدي عدة كتب تكفي لإقامة قد تطول. ولكنني طلبت من الفتى الوحيد الذي يدير الفندق أي كتاب، أي شيء له علاقة بالأديرة والرهبان.
أعطاني كتاباً، فيه قصص رجال دين وقديسين وتواريخ لكنائس، وأبطال الرحمة في مجتمعاتهم…
وكان لأحد البطاركة الأرثوذكس قصة مثيرة للاهتمام… فاندسست في الفراش وبدأت قراءة سيرة هذا الرجل بشهية غريبة عليّ:
عند منتصف الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918 كانت المجاعة قد أطبقت على دمشق (وعلى كل سورية) والمجاعة ، التي حدها أي رغيف من أي نوع، من أية حبوب، وفي أي وقت.
هذا البطريرك آوى وأطعم المئات، ثم الآلاف، ولم يكن يفرق بين مسيحي ومسلم. وحين أصبحت كنيسته ومواردها عاجزة عن تأمين المزيد من الأرغفة … رهن الأوقاف الكنسية، وحين انتهت الأرغفة باع أيقونات الكنيسة، الذهبية والفضية، وحين انتهت الأرغفة باع الصليب الماسي الذي يزين القلنسوة البطريركية. وهو صليب ثمين أهداه له قيصر روسيا نيكولا الثاني عام 1913. وعندما سمع أحد أغنياء دمشق بالقصة اشتراه وأعاده له… فباعه مرة أخرى، واشترى به خبزاً. ووضع على القلنسوة صليبا ًمن زجاج.
وذات يوم جاء مقرىء مسلم أعمى طالباً العون. فقال له البطريرك: سأعطيك ما تطلب، ولكن أريد الاستماع إلى سورة مريم، وكان المقرىء رخيم الصوت وصاحب تلاوة مدهشة… فكان المشهد التالي:
مسلم أعمى يقرأ القرآن وبطريرك مبصر يبكي.
عندما احتل الجنرال الفرنسي “غورو” مدينة دمشق عام 1920، وقال عبارته الشهيرة على قبر صلاح الدين الأيوبي: “ها قد عدنا يا صلاح الدين” لم يكن البطريرك بين مستقبليه. وعندما حضر إلى الكنيسة لم يقبل أن يصافحه.
ذلك الرجل الكاهن الوطني الرحيم، أبو الخبز والفقراء (كما كانوا يسمونه)… عندما توفي 1958 مشى في جنازته 50 ألف مسلم ومسيحي، وأُطلقت مائة طلقة مدفعية تحية له. وأرسل الملك فيصل الأول ـ ملك العراق ـ مائة فارس للمشاركة في توديعه.
…………………….
أطبقت الكتاب.
كان الليل في الدير ممعناً في الظلام، تناولت رغيف خبز وتذوقت طعم الرحمة فيه، كأنما مسته اليد الكريمة لذلك الرجل الذي اسمه “غريغوريوس حداد”.